كيف سترفع الحرب الروسية اﻷوكرانية فاتورة القمح المصرية؟
 
 
دخان يتصاعد من محيط وزارة الدفاع الأوكرانية - المصدر: رويترز
 

بعد أسابيع من الترقب، بدأت روسيا، اليوم، حربًا على أوكرانيا، ستكون لها تأثيراتها السياسية على أوروبا بالأساس، فيما تمتد تأثيراتها الاقتصادية عالميًا، وبشكل خاص على مصر، المستورد اﻷول للقمح عالميًا، والتي استوردت 80% من احتياجاتها منه في الموسم الماضي من روسيا وأوكرانيا تحديدًا، بحسب تقديرات وزارة الزراعة الأمريكية «USDA».

وفي أولى تداعيات الحرب على سوق القمح، ارتفع سعره العالمي، حتى نشر هذا التقرير، 5%، بحسب وكالة بلومبرج. 

دخلت القوات الروسية من شرق أوكرانيا، حيث يقع جزء كبير من اﻷراضي الزراعية اﻷكثر إنتاجية، ما سيؤدي مباشرة إلى انخفاض إنتاجية القمح اﻷوكراني، وبالتالي صادراته، حسبما قال الرئيس السابق لشعبة المطاحن، عمرو الحيني، لـ«مدى مصر»، والذي أضاف أن شحنات القمح الروسي والأوكراني التي تعاقدت عليها مصر مؤخرًا أصبحت مهددة بعدم الوصول، موضحًا أن الأزمة الحقيقية ستكون في الشحن وليس التوريد، لأن ظروف الحرب سترفع تكاليف الشحن والتأمين في ظل ارتفاع المخاطر.

مصادر مختلفة تحدثت إلى «مدى مصر» أجمعت أنه حتى إن تفادت مصر نقص إمدادات القمح، سيكون اﻷثر المباشر للحرب هو ارتفاع قيمة فاتورة الدعم بملايين، وربما مليارات، الجنيهات.

وفقًا لـ «USDA»، بلغ إجمالي استيراد مصر من القمح في الموسم الماضي نحو 13.2 مليون طن، استوردت منها هيئة السلع التموينية نحو 5.46 مليون طن، لتوفير الدقيق المدعم الذي يقدم الخبز يوميًا لنحو ثلثي السكان، أما الكمية المتبقية فاستوردها القطاع الخاص لتوفير احتياجات الصناعة أو الخبز الحر.

رغم هيمنة روسيا وأوكرانيا على كميات القمح الذي استوردته مصر الموسم الماضي، بواقع نحو 8.96 مليون طن قمح روسي، و2.7 مليون طن قمح أوكراني، إلا أن رئيس شعبة المطاحن السابق، وليد دياب، لا يرى داعٍ للفزع، إذ تمتلك مصر مخزونًا من القمح يكفيها لشهور، بعضه موجود في الصوامع بالفعل، والباقي تم التعاقد عليه، حسبما قال لـ«مدى مصر».

بحسب دياب، فإن بعض شحنات القمح التي تعاقد عليها القطاع الخاص بالفعل عالقة الآن في ميناء أوديسا على البحر الأسود، وهو أحد أهم موانئ الشحن اﻷوكرانية، بعدما استهدفته القوات الروسية.

بحسب دياب، فإن الأزمة تتمثل في الشحن من أوكرانيا باعتبارها الطرف الأضعف الذي يتعرض للهجوم، أما القمح الروسي سيواجه مشكلة أخرى متعلقة بطرق الدفع، حتى وإن كانت روسيا قادرة على الاستمرار في الشحن بشكل طبيعي. 

تدفع مصر (القطاع الخاص والحكومة) مقابل القمح بطريقتين. إما «كاش» أو من خلال الاعتمادات المستندية. هذا يعني أن البنوك المصرية هي المعنية بتحويل النقود لنظيرتها الروسية. ولكن هذه العملية ستواجه عقبات، بعدما فرضت الولايات المتحدة عقوبات على روسيا وأوقفت تعاملات بعض البنوك الروسية، التي تستقبل تلك التحويلات من مصر، وفقًا لدياب.

مخزون القمح الموجود في الصوامع يكفي لأكثر من أربعة أشهر مقبلة، بحسب بيان رئاسة مجلس الوزراء، أمس، ومتوقع أن يكفي احتياجات البلاد حتى نهاية العام الجاري حين يضاف إليه الإنتاج المحلي من القمح، والذي يبدأ جمعه في منتصف أبريل المقبل، وتشتري منه هيئة السلع التموينية عادة نحو ثلاثة ونصف مليون طن سنويًا.

بجانب ما في الصوامع، أكدت الحكومة في بيانها، أمس، أنها بدأت بالفعل في تنويع مصادر توريد القمح لتفادي تأثيرات الأزمة الروسية اﻷوكرانية.

«ممكن نوسع البَرجل ونروح بعيد خالص. نستورد قمح أمريكي، كندي، أسترالي، أو أرجنتيني» يقول جودة عبد الخالق، وزير التموين السابق، لـ«مدى مصر». لكن هذا الحل له ثمن مرتفع، سيكلف خزينة الدولة الملايين لبُعد المسافة عن مصر، وارتفاع أسعار الشحن، وتأثر سلاسل الإمداد العالمية، المتضررة بالفعل منذ بدء جائحة كورونا.

يقترح عبد الخالق حلًا على المدى القصير حال تأثر إمدادات القمح بالحرب، أن تخلط وزارة التموين الذرة البيضاء الأرخص مع القمح لصناعة رغيف الخبز المدعم.

سبق وطرح هذا المقترح كحل ﻷزمة نقص الخبر في 2008، وقتها، قال مستشار وزير التضامن الاجتماعى الأسبق، درويش مصطفى، إن له بعض العيوب، ومنها طبيعة الذرة التي تجعل الخبز يتفتت، فلا يمكن الاحتفاظ به لفترة طويلة ما يزيد من فاقد الخبز.

بعيدًا عن بدائل القمح كحل مؤقت، يرى عبد الخالق، أن معادلة القمح في مصر تحتاج إلى تفكير ثوري، حسبما قال، موضحًا أن نظام دعم الخبز يحتاج إلى المراجعة، وهو ما اتفق معه دياب والحيني.

كان رئيس مجلس الوزراء، مصطفى مدبولي، أعلن الأسبوع الماضي أن حكومته تدرس حاليًا جميع السيناريوهات المتعلقة برفع سعر رغيف الخبز، الذي لم يتغير منذ عام 1988. وذلك ضمن خطة أوسع لإعادة هيكلة برنامج الدعم الغذائي بأكمله، وليس الخبز فقط.

يصل إجمالي ما استهلكته مصر من القمح في الموسم الماضي إلى نحو 18 مليون طن، 13.2 مليون طن منها مستورد، أي أن الإنتاج المحلي المستهلك اقترب من خمسة ملايين طن، ورّدت منها هيئة السلع التموينية 3.5 مليون طن، وفقًا لبيان الموازنة.

وزارتا الزراعة اﻷمريكية والمصرية قدرتا إجمالي الإنتاج المحلي من القمح بأكثر من تسعة ملايين طن، وهو ما رأت مصادر متعددة تحدثت إلى «مدى مصر» أنه تقدير مبالغ فيه، غير أن افتقار البيانات الحكومية للدقة، أو غيابها التام أحيانًا، جعل تحديد حجم الإنتاج المحلي غير ممكن.

أيًا كانت الكمية المنتجة محليًا، فهي بالتأكيد تتجاوز ثلاثة ونصف مليون طن التي توردها هيئة السلع التموينية. فلماذا تكتفي الحكومة بتوريد هذه الكمية فقط من المنتج المحلي وتستورد البقية؟

في تصريحات سابقة لوزير التموين، علي المصيلحي، برر ذلك بأن هذه هي السعة الاستيعابية القصوى للصوامع. لكن مصادر تحدث معها «مدى مصر» ودراسات، تشير إلى أن 60% من الإنتاج المحلي يستخدم إما كبذور لزراعتها مرة أخرى، أو كعلف حيواني، أو يُفقد خلال عمليات النقل والتخزين، كما يحتفظ المزارعون بجزء من إنتاجهم للاستهلاك المنزلي أو لبيعه إلى المطاحن المحلية، لسد حوائجهم على مدار العام. فيما رجحت مصادر أن جزءًا من الإنتاج تابع لشركات خاصة.

إذن، في كل اﻷحوال، لا يبدو أن مصر تستطيع حاليًا التوسع في الاعتماد على القمح المحلي، وتظل في حاجة للاعتماد على الاستيراد من سوق تميزت خلال السنوات الماضية بالتذبذب السريع والمستمر في اﻷسعار.

خلال العام الماضي ارتفع سعر القمح بنحو 27%، مسجلًا سعره اﻷعلى في العقد اﻷخير، وفقًا لتقديرات منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة «FAO»، وذلك نتيجة عوامل على رأسها سوء اﻷحوال الجوية، التي أدت لانخفاض إنتاج الحبوب.

ارتفاع الأسعار الذي حدث في أسواق الحبوب عالميًا، دفع مصر بالفعل، العام الماضي، إلى إلغاء مناقصة لشراء القمح من روسيا، تزامنًا مع استعداد الأخيرة، حينها، لزيادة الضرائب على صادرات القمح، ووضع حد أقصى لتصدير الحبوب، في مسعى لحماية إمداداتها الغذائية، وضبط الأسعار محليًا، فضلًا عن رفعها رسوم تصدير الحبوب.

خلال الشهر الماضي، تعاقدت مصر على استيراد قمح روسي يُفترض وصوله مطلع ومنتصف مارس المقبل، بسعر 350 دولار للطن، بزيادة نحو 100 دولار عن سعر شراء القمح في الموازنة العامة، ما قد يعني تكبد مليار ونصف دولار إضافية (0.4% من الناتج المحلي الإجمالي) هذا العام، إذا استمرت بالشراء بنفس السعر، بحسب تقرير لمجلة «الإيكونوميست».

بعد أسابيع قليلة من هذه المناقصة، اشترت مصر 180 ألف طن قمح روماني يفترض تسليمها في أبريل المقبل، بسعر 318 دولار للطن. في الوقت نفسه انخفض سعر القمح الأوكراني 4% خلال هذا الشهر، وانخفض أيضًا سعر القمح الروسي 11 دولارًا. 

السعر المنخفض في آخر مناقصة يظل مرشحًا للارتفاع مجددًا، إثر مخاوف من استمرار ارتفاع أسعار المواد الغذائية العالمية، والتي سجلت بالفعل ارتفاعًا ينحو 28% العام الماضي، جرّاء ارتفاع أسعار الوقود والأسمدة، وتغيرات المناخ، وأزمات سلاسل الإمداد، فضلًا عن موجات تضخم ضربت بلدان عديدة.

في مواجهة تذبذب اﻷسعار، تدرس الحكومة المصرية، منذ عام 2018، اللجوء إلى عقود التحوط ضد ارتفاع سعر القمح، دون تنفيذ. التحوط يعني التعاقد مسبقًا على شراء سلعة بسعر معين، ودفع جزء من ثمنها واستلامها بعد فترة، بغض النظر عن سعرها الفعلي وقت الاستلام.

في تصريحاته الأخيرة المتزامنة مع اﻷزمة الروسية اﻷوكرانية، أشار المصيلحي إلى استمرار دراسة وزارته آلية التحوط للتأكد من جدواها. فيما اعتبرت المصادر التي تحدثت لـ«مدى مصر» أن حساسية ملف الخبز في مصر، والمخاطرة الكامنة في التحوط، قد تكون سببًا يعيق الوزارة من تنفيذ هذا الإجراء طوال هذه المدة وحتى الآن.

يشرح عبد الخالق أن خطورة التحوط تكمن في تقلب الأسواق والأسعار. «لو أنا تعاقدت إني أشتري القمح بـ350 دولار النهارده. ووقت استلامه بعد شهرين، سعر القمح نزل لـ300 دولار، يبقى أنا كده خسرت، وهيتقال الحكومة عمالة تبعزق الفلوس، ومش بعيد حد يروح يرفع قضية على الوزارة ويقول إهدار للمال العام».  

بخلاف خوف الحكومة من اتهامها «ببعزقة الفلوس»، يحتاج اتخاذ قرارات التحوط لخبراء، في حين أن العاملين بهيئة السلع التموينية «محاسبين» على حد وصف عبد الخالق، الذي قال إن معظم مهام العاملين بالهيئة تنحسر في احتساب كمية القمح المنتجة والمستوردة والمطلوبة والمخزنة.

بعيدًا عن الحلول المؤقتة، «لازم نتعظ من الاعتماد على الاستيراد في ما يخص الأمن الغذائي» يقول عبد الخالق، مضيفًا أن الثورة الخضراء التي قامت بها الهند في الستينيات، واستخدمت فيها نظم زراعة حديثة، وطورت أصناف القمح لزيادة إنتاجه، جعلتها الآن من الدول المصدرة للقمح رغم ضخامة عدد سكانها.

«الفرق بين الهند ومصر، أنهم توسعوا رأسيًا من خلال تطوير سلالات الغلة، لكن إحنا بنروح نستصلح الصحرا من غير ما نشتغل على  تطوير حقيقي للأصناف».

اعلان
 
 
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن