ظلال المعنى
 
 

لا نزال نعيش توابع وباء / جائحة، وفي القلب من ذلك نعاني ظروف اقتصادية تُنفض جيوبنا، وتجعلنا نعيش على الكفاف وإن كنا نصرّ على قليل من الرفاهية من باب النزاهة. هذا هو عيشنا، بينما السياسة والمجال العام حالهما كما تعرفون؛ لا يسر ولا يسمح بالأمل للأسف. ثم يدب خفيفًا بعض النشاط؛ كتب تُطبع، ومعارض تُفتح، نرى كيف تذوب العزلة في زحمة لقاءات اجتماعية وروتين سعي الإنسان طلبًا للرزق.

وفي غمرة العودة للاجتماعيات، رويدًا رويدًا، نجد صعوبة في وصف كيف هو الحال ردًا على سؤال عابر مثل «الدنيا تمام؟» أو «ماشي الحال؟». ننقب هذا الويك إند بحثًا عن معنى معبّر، عن ظلاله التي تحمل تعقيدات المشهد وتشابكات الأحداث مع المشاعر المضطربة.

1

في نعمة: تأمّل النَعم التي يتمتع بها كل فرد أمر جيد، لكن فيض النعم أو الإحساس بها لن يغيّر من الوقائع والخطوب التي تعصف بمحاولات التفاؤل.

2

ماشي الحال: بالتأكيد حسنٌ إن الحال ماشٍ، وإن شعر أحد بهذا المشي فإن هذا إنجاز عظيم وفتح كبير.

3

رائع / عَظمة: قد تُستخدم علامة تعجب مُلحقة مع الوصف لإبراز السخرية، لكن لا حاجة لذلك، فكلنا نعلم أن الشعور بالروعة أمر مؤقت ولا يعول عليه إجمالًا.  

4

تسألني عن أحوالي، فأقول إن كل شيء «Precarious». أبحث عن ترجمة مناسبة لهذه الكلمة فلا أجد، لذا سأحاول شرح معناها.
الـ«precarity» -وهو الاسم المشتقة منه الصفة- وضع يشبه التأرجح على حافة ما، دون أن تسقط.

 Precarious، كما المدينة: خُراج ضخم، ملوث؛ ينتفخ ويتورّم لكنه لا ينفجر.

تحديق ذلك الرجل الأصلع فينا على الكوبري، بينما نشق طريقنا بين السيارات في زحام العصر البائس، أنت وأنا -نضحك ونحن نسير متشابكيّ الأيدي. يراقبنا، وقد استند بظهره إلى سور الكوبري الحديدي، وإلى جانبه امرأة عابسة الوجه، وجبينها يتلألأ بالعرق تحت حجابها الأبيض. تقول لي: «إننا نضايقهما لأننا نبدو سعداء».

هذا العداء المكتوم، يؤخر العنف ويمنع انفجاره، لكنه يُثقل الهواء بالتوتر والخوف، على نحو يجعل مجرد المشي في الشارع precarious -مغامرة محفوفة بالمخاطر- في بعض الأحيان.

«أرني هاتفك»، أمرك ضابط لا تعلم من أين أتى. أربكك صوته الذي انطلق عقب التقاط الصورة مباشرة. أتتذكر ذلك اليوم؟ لقد أطعته مُخبرًا إياه بأنك لم تكن تعلم أنها منطقة عسكرية وأن التصوير ممنوع. فحص الصور واحدة تلو الأخرى، وحذف منها ما يشاء. أعطاك الهاتف وأخلى سبيلك، ثم قابلتني لتناول الغداء.

يحمل كل يوم الـprecarity في طياته، لأنه في نسخة أخرى من هذه القصة، وبنفس القدر من الواقعية، سأكون منتظرة في المطعم بينما ستكون أنت في السجن.

«… والتفجيرات»، أضفت. في ذلك الصباح عندما انفجرت سيارة أمام الجامعة، حيث نزل أخي من التاكسي قبل ذلك بعشر دقائق فقط. سمع دوي الانفجار في قاعة المحاضرات -اهتزت الأرض والجدران بقوة، واندفع الجميع إلى الخارج بين الفوضى والدخان. تُذكرني بمدى هلعي عندما حاولتُ الاتصال به ولم أستطع الوصول إليه -«كنت تعتقدين أنه مات».

إنه وضع precarious، عندما يستطيع الموت الوصول إليك بسهولة وأنت تمارس روتينك اليومي، ثم نعلم أنه تجاوزك لسبب ما، واختار شخصًا آخر: شخص في طريقه إلى عمله، أو في انتظار الحافلة، أو يبيع الصحف على الرصيف.

يدق جرس الباب، فيتوقف الجميع عما يفعلونه. تتجمد الأيدي فوق لوحات المفاتيح، تخفت أصوات المحادثات، تُحبس الأنفاس. ينظر الجميع إلى الباب في تردد. حتى يقرر شخص أن يفتحه في النهاية. إنه عامل توصيل الطعام، أو جامع القمامة، أو كاتب مستقل جاء ليحصل على أجره. يمكن سماع قعقعة لوحات المفاتيح مرة أخرى، واستئناف المحادثات، وإطلاق الأنفاس (تنهدات الارتياح السرية). لكن عقولنا في مكان آخر، لأننا نعلم أن احتمالات كونه شخصًا آخر كانت كبيرة. لأن هذه كانت بداية كل ما حدث في ذلك اليوم المشؤوم في نوفمبر، منذ عام تقريبًا: دق جرس الباب.

الـprecarity هو أن يصبح الطَرق على الباب أو مكالمة من رقم غير معروف بمثابة حكم: لم يعد لديك مكان للعمل، تحتاج إلى حزم أمتعتك وركوب أول طائرة، أو تُحبس في زنزانة إلى أجَلٍ لا يعلمه إلا الله.

أو تلك الليلة، عندما كنّا في طريق عودتنا من إحدى الحفلات، بعد منتصف الليل بقليل. اقتربنا من نقطة التفتيش، وبّخت نفسي لعدم الاستماع إلى الأشخاص الأكثر حكمة، والذين نصحوني بإزالة جميع تطبيقات الوسائط الاجتماعية من هاتفي. كل أنواع السيناريوهات السيئة مرت في رأسي. حذفت فيسبوك بسرعة، لكنني اخترت ترك واتسآب حتى لا يبدو الأمر مريبًا للغاية. لقد قمت بأرشفة جميع محادثاتي تقريبًا. لم يوقفنا الضابط حتى، لكن هذا لا يعني الكثير. هل تتذكر ذلك الصديق الذي تجرأ على السؤال عن سبب تفتيش سيارته، وانتهى الأمر بأن دسوا له قطعة من الحشيش داخل التابلوه، وبعد محاكمة استمرت لعدة شهور، قضى سنة في السجن؟

كنت في حفل منذ دقيقة، وفي الدقيقة التالية تتساءل عما إذا كنتَ ستعود إلى منزلك في تلك الليلة أم لا. لا عجب في أن كلمة «كمين» -التي تعني نقطة تفتيش- كثيرًا ما تُستخدم لوصف شخص يواجه مشكلة؛ مشكلة من أي نوع. نقول: «لِبِس في كمين».

قد يصدر قانون عقاري جديد، وبموجبه قد تفقد الشقة التي تعتبرها اليوم بيتك. قد يجف النيل، لكننا لا نعرف على وجه اليقين لأن الأمر يتوقف على مفاوضات تجري في غرف لا يُسمح لنا بالدخول إليها. قد تنخفض مدخراتك -إذا كنت محظوظًا بما يكفي لامتلاك أي مدخرات- إلى النصف، بسبب القروض وتعويم العملة والمصالح الاقتصادية؛ أشياء لا يصعب فهمها على مواطن عادي مثلك. قد يختفي مكانك المفضل -حيث تذهب للعمل وتناول الطعام ومقابلة أصدقائك- ذات صباح، لأن الدولة نزعت ملكية الأرض لأسباب المصلحة العامة، ولأنه ليس لك الحق أصلًا في أن يكون لديك مكان مفضل: في واقع الأمر، أنت لا تملك أي مكان داخل هذه المدينة، بغض النظر عن الامتيازات التي تتمتع بها.

قد نخوض حربًا في دولة مجاورة، وقد تندلع الفوضى في الشوارع قبل أن نفعل، وقد يتحطم القطار في رحلتنا التالية -وغالبًا ما تتحطم القطارات- قبل أن نتمكن من رؤية ما سيحدث.

لكنك تقول إننا ما زلنا نقف على أقدامنا. نحن نقف بالفعل، ولكننا لا نقف على أرض صلبة أبدًا، أليس كذلك؟ الأمر precarious كما تعلم. نتأرجح على الحافة، لكننا لا نسقط.

تسألني: «كيف الحال؟»، الحال مرتبط بالجو العام، وأنت عارف الجو العام عامل إزاي.

وفي ختام الكلام، سلام، كنتم في محاولة لوصف الجو العام في حال السؤال عن الحال.

اعلان
 
 
ياسمين زهدي 
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن