تقف «على خط جرينتش»، الرواية الثانية للكاتب المصري شادي لويس، خلف قناع لا مبالاة الراوي وسأمه. تخلق حكاياته الساخرة والمباشرة قناعًا من الألفة والبساطة. لكن ذلك القناع لا يمكنه أن يُخفي طموح الرواية في تقديم رؤى معاصرة ومغايرة عن كثير من الأفكار والموضوعات، بالإضافةً إلى الأسئلة الجدلية عن السلطة والقمع والعنصرية.
في «على خط جرينتش»، لا تتخذ العلاقة بين الشرق والغرب شكل الصراع المألوف في الرواية العربية، كما قدمته روايات مثل «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، و«أصوات» لسليمان فياض. والهجرة لا تمثل نهاية المأساة لمواطن عربي هارب من جحيم الحرب، بل فصلًا جديدًا من فصولها. كذلك، فالموت ليس واحدًا كما اعتاد أسلافنا القول. أما السخرية فصارت قرينة الشعور المأساوي بالحياة.
تدور الرواية حول الراوي، موظف إداري مصري صغير بالمجلس المحلي في لندن، يطلب منه صديقه أيمن أن يتولى إقامة جنازة وإتمام إجراءات الدفن لشاب سوري في العشرين، يُدعى غياث. لا أهل ولا معارف له في لندن. يَقبل الراوي على مضض.
يستدعي الراوي سلسلة من الحكايات والذكريات التي تطغى على حكايته مع جثمان غياث، وكيفية تلقي أسرته في مصر نبأ موته وتعامل السفارة البريطانية والأمن المصري معهم، ويستطرد في تفاصيل حكاياته المرتكزة حول الفقد والموت والحزن. كأنها قد تداعت في ذاكرته نتيجة الوحدة وأفكاره حول المأساة. كذلك يستعيد بعض الذكريات التي تعكس وضعه كقبطي في المجتمع المصري.
يحكي عن جدته «بديعة» الحكاءة، التي استعانت بالحكي لأهالي القرية على تدبير أمور المعيشة بعد اختفاء جده الذي خرج من بيته ولم يعد. ويحكي أيضًا عن خالته «هيلانة» التي اختفى ابنها «نايل» في صحراء الخليج أثناء حرب «تحرير الكويت»، أو في «حفر الباطن» كما تقول الجدة.
يعمل الراوي في وظيفة روتينية تتطلب التعامل مع العديد من الاستمارات وتعبئة الجداول وإعداد التقارير، والنظر في الطلبات المقدمة من الراغبين في السكن الاجتماعي. نشاهد لندن من خلال تأملات الراوي عن البيروقراطية وحديثه عن زملائه المهاجرين مثله من جنسيات وأعراق مختلفة. تتضمن مهامه الوظيفية الخروج أحيانًا في زيارات منزلية للمرضى الذين أُطلق سراحهم من مشافي العلاج النفسي، وذلك من أجل تقييم حالاتهم بمساعدة موظفي الرعاية النفسية، والنظر في استحقاقهم للسكن الاجتماعي بدلًا من المؤقت.
يخلق السرد، من خلال التقابل بين ذكريات الراوي عن مصر وتأملاته في لندن، نقضًا لجملة من التصورات القَبلية عن الغرب بصفة عامة، وعن لندن بشكل خاص. كما يقدم النص، عبر تلك المقابلة، صورة عميقة عن منظومة القمع والتمييز في البلدين لكن بتمثيلات مختلفة، كما سنبين لاحقًا.
قد يوحي تورط البطل/الراوي في مهمة دفن جثة غياث وإقامة جنازة له بأننا أمام إعادة توظيف تراجيديا أنتيجون وتوظيف ثيمتها عن المقاومة في سبيل دفن الميت تكريمًا لذكراه. تتردد تلك الثيمة في العديد من الأعمال الفنية، القديمة والمعاصرة. وتعكس في جوهرها فعل الدفن، وطرائق تعاملنا مع الموتى، بوصفه سمة مميزة للإنسان عن بقية المخلوقات، وتساؤلًا حول خلود الذكرى.
من مسرحية «أنتيجون» لسوفوكليس، حيث تتمرد أنتيجون على قرار الملك كريون بعدم دفن أخيها بعد موته، وتبدأ في صراع مع الحاكم المستبد، إلى رواية ويليام فوكنر «بينما أرقد محتضرة» التي تحاول فيها أسرة أمريكية تنفيذ وصية الأم وأمنيتها الأخيرة في أن تدفن بمسقط رأسها في الميسيسبي، فيحمل الأولاد الجثة في عربة ويجتازون مخاطر كثيرة من أجل الوصول. وأعمال أخرى مثل فيلم «طعم الكرز» للمخرج الإيراني عباس كيارستمي، وفيه يبحث البطل بدأب عن رجل يتعهد بدفنه بعد انتحاره. يؤكد تصدير الرواية «دع الموتى يدفنون موتاهم»، المقتبس من إنجيل لوقا، على تلك الثيمة.
إلا أن السرد يثير الشكوك حول إمكانية التزام الراوي بتعهده. تدخلات الراوي في سياق الحكي، تعليقاته على ما يسمعه من آراء وحكايات، وما يستدعيه من ذكريات، حافلة بالسخرية واللامبالاة.
يتفاعل الراوي مع تراجيديا غياث بوصفها «حكاية مملة»، بالرغم من أنها تتضمن أحداثًا مثل نجاته من الحرب والغارات، هروبه من سجون المخابرات في سوريا، ثم نجاته من حكم الإعدام على يد أحد فصائل المعارضة، وتنقله وترحيله من أكثر من بلد حتى وصوله إلى لندن. يقول عن الحكاية إنها «كان ممكن أن تكون أكثر إثارة لو حدثت قبل عشر سنوات مثلًا..القصة كانت مملة بعض الشيء ومخيبة للأمل، حتى أني بالكاد أتذكر خطوطها العريضة».
يصف الراوي ميتة غياث الهادئة بعد تحمله مشقة النجاة كل هذه المرات بأنها «ميتة لا تليق بأيامنا هذه». ويبدي أيضًا بعض التحامل على غياث عند سرده لبعض تفاصيل رحلته البسيطة.
لكن، حياة الراوي سلسلة من التعرض للظلم وخيبة الأمل وللأحكام والتصنيفات المسبقة. وهي تضيء لنا حقيقة موقفه من العالم. يذكر الراوي حادثة من سنوات الطفولة، حين اقترب منه توأمان من الجيران، ودون سبب بصق أولهما على وجهه بينما ركله الثاني، وصرخ أحدهما في غضب: «يا عضمة زرقا». يُعلق الراوي قائلًا:
«لا أعرف على وجه الدقة لماذا يصبح الظلم أقل ألمًا لو جاء مقترنًا ببعض القواعد العامة والمفهومة. ربما بسبب الاعتياد والتوقع، أو ربما لأنه يفقد طابعه الفردي، ولا يشعر المرء أنه موجه إليه بصفة شخصية. كانت هذه بصقة على المسيحيين جميعهم، وليس في الضرورة في عيني أنا، هذا ما قلته لنفسي. وكانت تلك الفكرة مرضية تمامًا، وسببًا كافيًا لأسقط عبء الانتقام عن كاهلي».
وعند وصوله إلى لندن، لم يجد الراوي ما كانت الخالة هيلانة تتداوله من حكايات عن محبة الأمريكان وانجذاب الشقراوات لابنها نايل لأنه «مسيحي». يقول: «عاملوني هنا كما يُعامل المسلمون.. ففي المطارات كانوا يوقفونني كما يوقفون المسلمين، ويفتشونني كما يفتشونهم، ويدققون في أوراقي كما في أوراقهم، ويسألونني أسئلة غليظة كما يفعلون معهم بالضبط». وغيرها من الأحداث التي كان فيها الزملاء والمعارف من لندن يتعاملون معه كمسلم.
صار الراوي لا منتميًا، ومغتربًا أينما ارتحل. فهو مسيحي في مصر يُبصق في وجهه، ومسلم في لندن يخافون منه ويرتابون فيه. كذلك يتحدث عن خيبة أمله بعد زياراته لهايد بارك، رمز حرية الرأي التعبير، ومن التظاهر أمام السفارة المصرية في لندن تزامنًا مع ثورة يناير، وسأمه من الوقفات الاحتجاجية.
يقول في كلمات دالة: «اكتشفت أن الحريات مملة جدًا. وأنه لا متعة في ممارستها، إن لم تتضمن قليلًا من المخاطرة وبعضًا من العواقب». ويؤكد أن الفلسفة «هي ابنة خيبة الأمل»، وأن «الحكمة أحياًنا تكون قرينة الجبن». يقدم شادي لويس بطله كنقيض للبطل التراجيدي الذي يتحدى القدر والآلهة. تحدي البطل التراجيدي يُعيد تشكيل نظام الجماعة الأخلاقي، كما يبين فالتر بنيامين، أما بطلنا فهو يعتاد ذلك النظام رغم ظلمه.
المأساة تكمن في العادية، والأوديسا صارت رحلة طويلة في الاتجاه المعاكس للوطن، إلى أبعد مكان عنه. وللظلم منطقه وقواعده التي تُسقط عنك عبء الانتقام. والحكمة بلا جدوى.
تخلق الرواية معضلة أخلاقية أخرى أمام الراوي تُضاف إلى العبء الذي تطوع بحمله. ففي مهمة عمل، يزور الراوي السيدة «أ» مع زميله النيجيري كايودي، مدير قسم الرعاية النفسية، ليقيماها نفسيًا، و«أ» امرأة كردية في الخامسة والستين من عمرها، خرجت حديثًا من مؤسسة للأمراض العقلية التي نُقلت إليها عقب تدهور حالتها في الأسابيع الأولى من السجن، وذلك بعد اتهامها بإشعال حريق متعمد في بيت ابنها.
لا تسير الزيارة على نحوٍ جيد، بعد سلبية نتيجة الاختبار، وقيام كايودي بإخبار العجوز أنها لا تستطيع مغادرة الغرفة التي عينتها لها الرعاية الصحية، لكن الراوي يتهم زميله، لاحقًا، بجلافة رده، كي ينتقم من المرأة التي نعتته ﺑ«العبد» في بداية الزيارة، على الرغم من تأكيد الأخير أن اختبار هيئة الصحة الوطنية محايد، وأن المرأة فاقدة للحد الأدنى من الملكات الذهنية والإدراكية.
وفي الليلة نفسها، تجد الشرطة جثة السيدة «أ» متفحمة في غرفتها، بعد أن التهم حريق غرفتها وما يجاورها، فيظن كايودي أن المرأة قد انتحرت بسببهما، وأن تحقيق الشرطة سيؤدي في النهاية إلى فصلهما من وظيفتيهما لأنهما لم يتخذا أي إجراء بعد ما لمساه من ميولها الانتحارية، الأمر الذي يجعله يطلب من الراوي مسح اسمها من سجلاتهما، وإزالة أي أثر لها من على «السيستم»، وأن يتظاهرا بأن السيدة «أ» لم توجد أبدًا. فلا حياة لمن هم مثل تلك المرأة «خارج السجلات».
هنا تتجلى حكاية السيدة «أ» كرواية قصيرة داخل الرواية، لا كمجرد حكاية جانبية، ذلك لأنها تطرح تصورًا عن الراوي مناقضًا للصورة التي رسمها عن نفسه، ولما حاول الإيهام به. يكشف الكاتب من خلال الجدال بين الراوي وكايودي عدة أفكار جوهرية.
يسترسل كايودي ويعدد الأسباب محاولًا إقناع الراوي. يفكر الراوي أن كل ما يقوله كايودي كان حقيقيًا تمامًا، لكنه ليس عادلًا، ويضيف أن الحقيقة ستتكشف في النهاية. غير أن كايودي يخبره أن «الحقيقية هي ما نتفق عليه»، وأن« خط جرينتش»، الذي تقابلا عنده أمام المرصد الملكي، «غير موجود» لكنه حقيقة؛ إذ يقسم العالم شرقًا وغربًا، وكل نقطة في الأرض والسماء تقاس بالنسبة له لأن «بعض الناس اتفقت على وجوده»، وهذا ما يعارضه الراوين الذي يرى أن وجود خط جرينتش نتيجة لما فرضته قوة بريطانيا العظمى العسكرية على «الجميع».
هكذا يرسم شادي لويس الثالوث القائم على العلاقة بين الحقيقة والعدالة والقوة. تحاول الكتابة أن تظلل الخطوط الباهتة والزائلة بين الصواب والخطأ، وبين الظلم والعدالة، وفي الوقت نفسه، تمحو الخط الفاصل بين المأساة والمهزلة.
ثمة التقاء يحدث في الرواية بين سؤال الكتابة وقضية «الأقلية». والأقلية لا تعني الجماعة أو الفئة التي ينتمي إليها الكاتب، سواء كانت المسيحية كأقلية دينية في مصر، أو كونه عربيًا/ إفريقيًا/ ملونًا في لندن، بل معناها أن الكتابة «تلتقي دائمًا بأقلية هامشية لا تكتب، ولا تُحمل نفسها مسؤولية الكتابة»، كما يقول جيل دولوز. يوضح دولوز أن هذه الأقلية في الغالب لن تقرأ ما كُتب عنها. في حالة «على خط جرينتش»، تلك الأقلية تتمثل في الموتى، الراحلين عن عالمنا. لقد فقدوا قدرتهم على التعبير عن نفسهم. يتحمل الراوي مسؤولية الحفاظ على ذكرى الموتى من المحو والنسيان.
يستعيد الراوي صدمته حين علم بانتحار آدم، صديقه المقرب في القاهرة، وكيف ظل وحيدًا في لندن مُنكرًا وفاته، يبعث إليه برسائل فيسبوك كل يوم لبضع أسابيع. كانت ذكرى آدم كفيلة بأن يتخذ الراوي قراره مهما كانت النتائج:
«كيف لي أن أعبث بالسيستم وأدنس ذكرى الموتى هكذا. لن أجرؤ بالطبع على محو اسم السيدة (أ) من قاعدة البيانات. ولا أهتم بالنتيجة، ولا بما سيحدث لكايودي أو لي. فلا خطيئة أكثر دنسًا من النسيان عمدًا».
كأنه بهذا القرار يخلد ذكرى جميع الراحلين: غياث، نايل، آدم، الجدة التي أصيبت بالخرف في أواخر حياتها، ويحمي تلك الذكرى من الدنس.
إلا أن «الأقلية» بالمعنى السياسي والاجتماعي حاضرة أيضًا، لكن عملية التعبير عنها تكشف كذلك عن ما يعنيه دولوز من «خيانة الكاتب»، بالمعنى المجازي، «لجنسه ولطبقته ولأغلبيته». فكما يكتب لويس الأقلية ويعبر عنها، فإنه ينتقد كذلك بعض رؤاها وأفكارها. إنها خيانة القوى والأفكار السائدة الحاكمة لعقل الأقلية. في «طرق الرب»، رواية لويس الأولى، كان النقد موجهًا لبيروقراطية المؤسسة الكنسية وتحكم الطقوس الكهنوتية وسلطة الدولة في الشؤون الشخصية الحياتية. أما في «على خط جرينتش» فإن لويس لا يقدم الأقلية في صورة ملائكية ترضيها. فالأقلية تمتثل لتراتبية القمع التي أقامتها السلطة، مثل حكاية الراوي عن أمه التي ردت بضرب التوأمين في شجاعة، ظنًا منها أنهما من عائلة فلسطينية. والمهمشون يكذبون ويخطئون. لكن كل هذا ليس سببًا لعدم تفهم جذور معاناتهم.
تتعدد مستويات تمثيل السياسة داخل الرواية. إذ تقدم نقدًا للواقع الذي يتشكل وفق بنية السلطة وخطابها. ترى الرواية السياسة بوصفها الطريقة التي تنتظم بها حياتنا الاجتماعية. فهم الرواية للسياسة عميق رغم مباشرة الخطاب الروائي في بعض الأحيان. السياسة، وفق هذا المعنى، هي «مجموعة من العلاقات الإنسانية في بنيتها الواقعية، الاجتماعية، وفي قدرتها على صناعة العالم»، كما يعبر رولان بارت .
يكشف لويس عن السلطة حين تتخفى خلف قناع من إدعاءات «العقلانية» و«المهنية» و«العلمية». ينتج الراوي، كمتكلم في الرواية، خطابًا إيديولوجيًا نقديًا متماثلًا مع بعض مقولات فوكو عن مؤسسات السلطة كالسجون والمصحات العقلية، وطبيعة ممارستها، وكذلك عن الجسد، وعن الأرشيف كوسيلة للتأريخ.
يتجلى ما سبق في كلام الراوي عن فكرة «المبنى»، وإيمان الدولة العميق به، حيث كل مشكلة يمكن حلها إن وجدنا المبنى المناسب لها: «فالجريمة يمكن استئصالها بالسجن، والمرض في المستشفى، والتعامل مع الشيخوخة بدور المسنين، وتدجين الطفولة في المدرسة، والفقر بالسكن الاجتماعي، وهكذا».
يوضح فوكو أن السلطة تبرر نفسها بوصفها سلطة أخلاقية داخل «السجن»، وبوصفها عقلانية داخل «المصحة العقلية»، حيث «الطغيان يظهر كأنه هيمنة هادئة للخير على الشر وللنظام على الفوضى». تشترك الرواية مع فوكو في طرحه للأسئلة عن ماهية الجنون ومن يملك سلطة تعريفه، وعن الجسد ومن يتحكم فيه. يتحدث كايودي عن ملاجئ الأمراض العقلية في لندن التي عمل بها من قبل، وشكلت أبرتهايد أو جيتو من نوع خاص، ضم المتشردين والمتسولين والمدمنين. وكان العمل فيها ينطوي على قدر كبير من العنف، وبعد أن أغلقتها مارجريت تاتشر رئيسة الوزراء، صارت المعركة في الشوارع والبيوت، لكن «دون عنف ظاهر».
في الرواية مقابلة كذلك بين منظومة القمع في مصر ومثيلتها في لندن. لكن القمع ينتقل من حالة الهيراركية/الهرمية الطاغية في الأولى إلى حالة جماعية مقننة في الثانية.
طوال الرواية، ينتقد بطلنا المحاولات الدائمة لتصنيف البشر وتقسيمهم والتفرقة بينهم. تصر كاتجينا، زميلة الراوي، على أنه ليس إفريقيًا، بينما يعامله آخرون على أنه مسلم في يقين لا يتزعزع. يُعري لويس سياسات التمييز الغربية، التي لا زالت حاضرة إلى الآن. وكذلك يُعري ما يعرف حاليًا ﺑ«سياسات الهوية»، حتى أثناء محاولتها، حسنة النية، في بيان فكرة الاختلاف والتعددية الثقافية كما تروج ممارسات الصوابية السياسية. تذكرنا الرواية برؤية الفيلسوفة والناقدة الفرنسية جوليا كريستيفا، أن حرية الفرد يجب أن تحظى بالأسبقية بدلًا من حضور فكرة الطائفة أو الجماعة. تقول كريستيفا إن التوكيد السياسي على الهويات الجنسية أو الإثنية أو الدينية يقوض الديمقراطية ويعمل على تآكلها فعليًا. ربما تكون المفارقة الساخرة التي اختتم بها لويس روايته عن «جلب الإسلام إلى مقبرة ماركس» مجرد نكتة من العراقي الذي يحضر جنازات مَن لا أهل لهم، وربما تكون نقدًا للتفكير الهوياتي أو تأبينًا لمرحلة منقضية من النضال السياسي.
يتساءل ميلان كونديرا عن الكيفية التي استطاع بها الكاتب العظيم كافكا تحويل عالم البيروقراطية، عالم القواعد والأوامر والآلية، إلى روايات ساحرة.
يقول كونديرا إن «كافكا لم يرَ الأهمية الرئيسية للظاهرة البيروقراطية بالنسبة إلى الإنسان ولشرطه ولمستقبله فحسب»، بل رأى كذلك «القوة الشعرية الكامنة التي ينطوي عليها الطابع الشبحي للمكاتب».
تقدم «على خط جرينتش» مجازًا مشابهًا في بحثها عن الأدب بين المكاتب، إن جاز التعبير. وذلك عن طريق تحويل مادة البيروقراطية إلى مادة روائية، أو ما يصفه الراوي ﺑ«الأدب الإداري» ممثلًا في تقارير ومراسلات ملف السيدة «أ» وغيرها. حكايات «الأدب الإداري» هي حكايات تراجيدية ومأساوية كُتبت، في أغلب الأحيان، بلغة «محايدة» أو ذات بُعد واحد. يقع أسلوبها في عالم من «الإنشاء المغلق». وأبطال هذه الحكايات، ومعهم شخصيات الرواية، موظفون في خدمة المأساة.
في سياق مقابل، فإن الرواية تفحص اللغة بوصفها كائنًا محملًا بالعلائق الاجتماعية، وترى أن «اللفظة» لها حياة عاشتها عبر فترات تاريخية وتشكلات اجتماعية قبل أن ينطقها الإنسان، كما يشرح الراوي في حديثه عن الكلام والحياد، وتاريخ تطور إلقاء التحية في مصر.
تبين الرواية أن الهوية ليست صفة مستقرة في الإنسان، ليست نسقًا جامدًا أو مُعطى سلفًا. قد تخضع الهوية الفردية للعديد من الخطابات والمحددات الاجتماعية، لكن الوعي بتلك الخطابات المهيمنة هو وسيلة الإنسان لاستعادة فرديته. يقول جيل دولوز إننا «لا نفتقر إلى التواصل، بل على العكس نحصل على الكثير منه». وبالفعل، فإن شخصيات الرواية في سعي دائم إلى التواصل فيما بينها، إلا أن الأحكام المسبقة والرغبة في التصنيف تحول دون إتمام التواصل بمعناه الإنساني. توفر «على خط جرينتش» ما نفتقر إليه حقًا، وهو «مقاومة الحاضر»، بتعبير دولوز. وكما تُخلد الرواية ذكرى موتى الأمس، فإنها تسعى إلى إحياء موتى الحاضر. الأحياء، لكن في السجلات الرسمية، فقط.
عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر
أشترك الآن