«ما لا يمكن إصلاحه»| قصص عن عالمنا المُنذر دومًا بالكارثة
 
 

في القصة الأخيرة من  «ما لا يمكن إصلاحه»، المجموعة القصصية الجديدة للكاتب المصري هيثم الورداني، يسأل أحد الحاضرين راوية القصة عن «أخبار الكتابة» وآخر إصداراتها. وحين تجيبه بأنها تتحدث كثيرًا مع الحيوانات هذه الأيام، يسألها ما إذا كانت تكتب قصصًا للأطفال. تستفسر منه قائلة:

– ليه؟ هي الحيوانات بتظهر بس في قصص الأطفال؟

  فيقول باسمًا:

– آه. مادامت حيوانات بتتكلم تبقى قصص أطفال، إلا إذا كانت بقى قصص خيالية أو رمزية من بتوع زمان.

  يثير حضور الحيوانات في غالبية قصص المجموعة أسئلة عدة حول دلالة هذا الحضور ومعناه. خاصة وأن هذه القصص لا تهدف بشكل رئيسي إلى إعادة صياغة القصة الأليجورية (المجازية) بمعناها الراسخ، كما في «أليس في بلاد العجائب» مثلًا، أو في الحكايات التراثية مثل «كليلة ودمنة». إن غموض قصص «ما لا يمكن إصلاحه» يجعلها أقصى نقيض ممكن للمباشرة الأليجورية بطابعها التهكمي أو التعليمي. فالغاية من ظهور الحيوانات ليست «رمزية» بالمفهوم التقليدي.

 من ضمن ما كُتب على ظهر غلاف المجموعة أن القصص تدور حول «شعور الإنسان بمركزيته» و«عنفه حيال كل ما يلفت من منطق تلك المركزية». وإذا أردنا أن نفهم الدلالة المغايرة لظهور الحيوانات في قصص الورداني، يجب أن نتناول أولًا الفكرة الكلاسيكية عن «مركزية الإنسان» في العالم، ومنطقها ومدى حقيقتها وفاعليتها.

  هكذا تكلمت الناموسة      

 في الفصل الأول من كتابه «حكم الخبراء: مصر، التكنو-سياسة، الحداثة» يتساءل المفكر الأمريكي تيموثي ميتشل: «هل الناموسة تتكلم؟». يقول ميتشل إنه في صيف عام 1942 غزت قوتان مصر، إحداهما فقط كانت قوة بشرية وبالتالي «بقيت وحدها في الذاكرة» رغم أن القوة الأخرى تسببت في خسائر أكبر.

القوة الأولى عسكرية ممثلة في القوات الألمانية القادمة من الحدود الليبية، بقيادة رومل، حيث واجهتهم القوات البريطانية وكانت معركة «العلمين». أما القوة الغازية الأخرى هي «الأنوفيليس جامبي» ناموسة متوطنة في إفريقيا جنوب الصحراء وحاملة لطفيل الملاريا، بلازموديوم فالسيباروم.

 جاء أول تقرير عن انتشار الملاريا في مارس 1942 من قرى النوبة. يقول ميتشل إن الوباء وصل إلى أسوان في يوليو وإلى الأقصر في أغسطس ثم واصل طريقه شمالًا إلى أسيوط. ويقدر عدد من أصابهم المرض بما قد يصل إلى ثلاثة أرباع المليون خلال سنوات الوباء الثلاث، مات منهم ما بين مائة ألف ومائتي ألف. يبين ميتشل الكيفية التي استفادت بها ناموسة جامبي من الحرب وتحولاتها وما يتبعها من نقص الموارد والتدابير اللازمة، وأيضًا من طرق الري الجديدة. ورغم التغيرات الجغرافية والاقتصادية والاجتماعية والصحية التي أحدثها الوباء، فإن ميتشل يقول: «اليوم اختفت الأنوفيليس جامبي من قصة السياسة المصرية. وحتى الرواية الوحيدة الجيدة عن وباء الملاريا، لا تولي الناموسة ولا الطفيل الخاص بها حقهما في التقدير».

 يُرجع ميتشل هذا الاختفاء إلى سمة أو قاعدة في التحليل الاجتماعي والتاريخي تفترض وضع «الفعل البشري في المركز»، ومعاملة العالم الخارجي كساحة لمثل هذا الفعل لا كمصدر لأشكال الفاعلية والقوة. «كل الفاعلين بشر. وأبطال التاريخ هم ناس، بشر، تُكتب القصة حول أفعالهم ونواياهم». تلك هي «المركزية» التي تتناولها قصص الورداني. اختفت الناموسة لأن قصة تطور السياسة حُصرت بين «البريطانيين والنُخب القومية والملكية والارستقراطية وأصحاب المشاريع وظباط الجيش وسكان الريف» وغيرهم. يقول ميتشل: «أما الناموسة، فيقال إنها تنتمي إلى الطبيعة. الناموسة لا تتكلم».

دفعتنا اللحظة الراهنة إلى سرد قصة الملاريا. فعند دخولك إلى الموقع الرسمي لمنظمة الصحة العالمية رغبةً في معرفة آخر أنباء ومستجدات وباء «كورونا»، ستطالعك تلك الكلمات:

Novel Coronavirus، تكمن المفارقة اللفظية في أن كلمة Novel التي يقصد بها «المُستجد» أو الجديد تعني أيضًا «رواية» في الإنجليزية. كأن الوباء الحالي رواية أو سردية كاتبها الفعلي هو فيروس، والإنسان مجرد قارئ يقدم مراجعة يومية.

  ربما تكمن قوة الفن في منح الفاعلين الآخرين القدرة على الكلام. وهذا ما تحاوله «ما لا يمكن إصلاحه».

التحول: مسخ الإنسان

إن شئنا الدقة فإن الحيوانات لا تظهر فقط في قصص المجموعة، وإنما قد يأتي وجودها نتيجة عملية تحول أو انمساخ، حرفيًا ومجازيًا. يحيل عنوان القصة الأولى «سلطان قانون الوجود» إلى قصة يوسف إدريس الشهيرة «أنا سلطان قانون الوجود». يُحلل إدريس في قصته مستنكرًا، وبأسلوب وصفي تقريري، المقدمات والمعطيات التي أدت إلى مصرع مدرب الأسود محمد الحلو بأنياب أحد أسوده. يتساءل إدريس عن تمرد الأسد وعدم امتثاله واستشعاره للخوف داخل سيده، مما أدى في النهاية إلى قيام الأسد سلطان بدوره كوحش وينهش مدربه، لأن هذا هو «قانون الغابة وقانون الحضارة والإنسان والوجود». وبينما يرصد إدريس لحظة انهيار «غير مألوفة» في مركزية وبطولة الإنسان، فإن قصة الورداني تتعامل بعادية مع «اللا مألوف». صدمة إدريس أمام قانون الوجود الطبيعي تقابلها عادية قصة الورداني إزاء التحول الخارق للطبيعة حيث يتحول فجأة وليد طه، واحد من شخصيات القصة، إلى بهيمة عجيبة، مزيج من الحمار الوحشي والعنزة. انمساخ وليد طه تقابله شخصيات القصة بطرق شتى، لكنها تؤكد، بشكل أو بآخر، «عادية اللامعقول». يعمد أشرف، أحد رفاقه في تجارة المخدرات، إلى التعامل مع هذا التحول بشكل شخصي ويبدأ في ضرب وليد/البهيمة وإيذائها حتى تدله على المكان الذي أخفى فيه «البضاعة». أما أبو عبير فيفسرالحالة العجيبة لرفيقه بأن: «وليد طه اتعمله عمل».

في نهاية القصة يأمر صلاح باشا، الضابط الذي يتاجرون لحسابه، بذبح وليد طه رافضًا أي حلول أخرى من «السُني»، الصديق القديم لوالد «وليد». أن يتركه في الصحراء مثلا وأن يقتنع بأنه لا خوف منه فهو بهيمة غير قادرة على النطق. يرى صلاح باشا أن ما فعله وليد «هيبوظ الشغل» ويجب معاقبته. يقول: «المرة دي حمار مخطط، المرة الجاية سلعوة، كده الشغل مش هيمشي.. بكرة غيره يعملها زي ما هو عملها».

 يقر صلاح باشا قانونه الأزلي: «الدنيا دي مفيهاش غير يا قاتل يا مقتول، يا حكومة يا تاجر، والاتنين في إيدينا، مفيش حاجة تانية، مفيش بني آدمين بتبقى بهايم، وبهايم بتبقى بني آدمين».

 يتشابه القانون في القصتين حد التماثل. لكن نهاية قصة الورداني تقدم دلالة مغايرة لفكرة «التحول» أو «مسخ» البشر. في الميثولوجيا الإغريقية والأساطير القديمة يكون المسخ عقابًا من الآلهة للبشر، فتمسخ الآلهة الإنسان حيوانًا أو حشرة كعاقبة لسوء الفعل أو لتحدي البشر الآلهة، كما في أسطورة «أراكني» التي مسختها آلهة أثينا عنكبوتًا بعد أن تحدتها أراكني في مباراة للنسج على النول، أو في أسطورة الملك نبوخذ نصر كما تصورها لوحة ويليام بليك. يصير تحول/مسخ وليد طه تحديًا في ذاته، ربما كان مسخه جزاءً على أفعاله في حياة مليئة بتجارة المخدرات والبلطجة لكن صلاح باشا يقرر، كإله فانٍ، أن تحوله جرأة وتحديًا، وأنه يجب أن يُقتل حتى لا يتخذ غيره من التحول وسيلة للخلاص.

تتكرر ثيمة التحول أو «الحيونة» بمجازات متنوعة في قصص أخرى مثل: «أديم الأرض»، «مياه جوفية»، «شبابيك جديدة».

في «أديم الأرض»، لا يمكننا التفرقة بين الواقع والكابوس، فكلاهما صار شيئًا واحدًا. تبدأ القصة براوٍ مضطرب يستيقظ في أحد الأيام داخل بيته لكنه لا يتعرف على زوجته وابنته. يحكي عن عمله مع آخرين في دفن الجثث وحفر القبور لها، أكوام من الجثث تنقلها عربات النقل. جثث بعضها متفسخ وبعضها فقد أطرافه. يحفر في الأرض بمعوله لدفنها وأحيانًا يغسلها قبل الدفن، وكل ذلك يتم تحت مراقبة حراس مسلحين. يتأمل في البيت الآيل للسقوط والذي يراه يوميًا في طريقه من بيته إلى العمل. يمزج السرد بين الواقع والكابوس. يحكي الراوي عن تمرد الجثث وإصرارها على معاودة فتح أعينها. تنشب معركة بين حفاري القبور والحراس، يفقد إثرها وعيه لكنه يستيقظ داخل منزله. وهكذا تتغير معالم الأماكن باستمرار داخل القصة، تظهر أشخاص وتختفي. يروح إلى موقع الجثث ويحفر بحثًا عن آثار متبقية لها فلا يجد شيئًا. توحي القصة بأن عودة الراوي إلى منزله وأسرته وممارسة حياته الطبيعية تمثل نهاية الكابوس. لكن نهاية القصة تقدم واقعًا أشد وحشة من الكابوس نفسه. يجد الراوي نفسه وحيدًا في بيته، والبيت الآيل للسقوط يتحول إلى ركام وأطلال. يذهب إلى الحديقة الهادئة حيث مقبرة الجثث ويغرز أظافره في الطين:

«أخذت أحفر بيدي السطح الموحل، ثم انكفأت على وجهي في الطين حتى لامست رطوبته وجنتاي، وأخذت آكل من أديم الأرض».

  تمثل عودة الراوي الإرادية إلى «الأرض» نوعًا من العودة إلى الأصل، إلى ملاذ يحتمي به من غموض العالم وغرابته المتفاقمة. عودة إلى شكل آخر من الوجود؛ إذ يذكرنا العنوان بما قاله

 أبو العلاء المعري:

  خفف الوطء ما أظن أديم     الأرض إلا من هذه الأجساد

 التحول في «أديم الأرض» يمكن النظر إليه بوصفه مجازًا عن الخوف والشك، وعن حياة الإنسان في عالم ديستوبي، أو عن انحطاط الشرط الإنساني بشكل عام. أما في «مياه جوفية» و«شبابيك جديدة» فلا نشهد تحولًا أو «حيونة» وإنما تحل الحيوانات بديلًا عن الأفراد  كطرف آخر للتواصل الإنساني.

تقدم «مياه جوفية» رحلة الراوي إلى القاع، تخليه عن زوجته وابنه وتشرده في برلين بلا مأوى. تصبح رغبته في دفن جثة ثعلب وحفر قبر لائق له الفعل المنطقي الوحيد الذي يُقدم عليه. هذا الثعلب قد رآه من قبل في مشهد جانبي من لوحة موجودة بمنزل شابة كورية تعرف إليها في دروس اللغة الألمانية. لوحة عريضة تصور تقاطع شارعين وجماعات من المارة وسيارات. تتماثل حالة الثعلب مع حالة الراوي. لا أحد يكترث بهما، ويُضربان بقسوة. وفي «شبابيك جديدة» تتحدث الراوية إلى صور الحيوانات التي تقع عليها عيناها، تتخيل مشاهد وحكايات للحيوانات والطيور كما تسترجع مشاهد من علاقتها المنهارة مع زوجها. تنتهي القصة بتحول مجازي حيث تقلد الراوية الحيوانات في لعبة اعتادت عليها مع الطفلة سلمى ابنة صديقتها:

«أنا دلوقتِ قرد، لا أنا بومة. لا لا أنا نمر.

وكشرت عن أنيابي ومخالبي، فأخذت سلمى تقرقع من الضحك».

لا تحاول القصص الثلاث السابقة أن ترسم «الحيونة» كنتيجة فقط، سواء نتيجة لممارسة الإنسان الوحشية والتعذيب أو تعرضه للقمع والاستبداد، كما يصور مثلًا الكاتب والشاعر الراحل ممدوح عدوان في كتابه «حيونة الإنسان». فالعلاقة بين الإنسان والحيوان في قصص الورداني، سواء كانت تحولًا أو محاكاة أو تقمصًا أو تواصلًا، ليست علاقة بين أرقى وأدنى، ليست انحدارًا وإنما سبيلًا إلى فهم الإنسان لنفسه، ولعالمه المنذر بالكارثة.

 من علامات الكارثة                

  يحقق هيثم الورداني في «ما لا يمكن إصلاحه» شرط الكتابة الكارثية ومهمة الأدب كما صاغها في مقاله الهام «ظل الكارثة الطويل». يوضح الورداني أنه ينبغي على الأدب ألا يغيب سؤال «الكارثة» عن باله عند وقوفه أمام سؤال المستقبل اليوم. لا بالحديث عن الكارثة وإنما بجعلها شرط كتابة العمل الأدبي. وسيلة الورداني لخلق عمل «كارثي» هي  تضمين عمله للعديد من «إشارات الإنذار»: «فالكاتب لا يكتب بفعل العادة، أو من أجل الإفصاح عن رأيه في قضية ما، بل بسبب ضرورة ملحة تدفعه إليها إشارات الإنذار الداخلية. وما أن يلتقط واحدة حتى يزيح كل ما في يديه جانبًا ويهرع إلى العمل». وتصبح «إشارات الإنذار» هي منطق العمل لا مضمونه.

  أولى علامات أو إشارات الكارثة تتجلى في اللغة.

  اللغة بوصفها حاملة لآثار الكارثة وندوب التاريخ كما توضح مروة في قصة «أمل أعمى».  مروة المهاجرة في برلين والمثقلة بإرثها الفلسطيني، تحاول البحث عن إمكانية جديدة للحياة مع ابنتها نور وتعمل على طلب تقديم منحة مشروع مع زميلتها سارة بعنوان «معجم الندوب»:

 «كل كارثة تترك آثارها على اللغة.. وأين يمكن رؤية تلك الندوب؟ في المعاجم». يبحث معجم مروة عن «الندوب التي خلًّفتها الكوارث السياسية والاجتماعية فوق الكلمات». تكتب مروة أن المعجم ليس متحفًا للغة، بل «يصلح لكي يكون شكلًا من أشكال كتابة التاريخ». اللغة إذن هي الجسر الواصل بين الكارثة وسابقاتها من كوارث التاريخ. لكن «أمل أعمى» تقدم تاريخًا لا يتوقف، بل هو في عملية تخلّق مستمرة. تُمنع مروة مع سكان آخرين من العودة إلى مسكنها حيث تخرج قنابل قديمة من تحت الأرض في الحديقة الخلفية لإحدى بنايات الحي. وتُجهز خيمة طوارئ في الشارع من أجل استقبال السكان. القنابل الثلاث ألقيت على برلين في غارة جوية بريطانية عام 1944. نتيجة لذلك، لا تتمكن مروة من الوصول إلى جهازها المحمول داخل بيتها من أجل إرسال طلب تقديم المشروع قبل الموعد النهائي في منتصف الليل. كارثة قديمة من الحرب العالمية الثانية تؤدي إلى كارثة كبيرة محتملة في الحاضر وكارثة صغيرة/شخصية تتعلق بعمل مروة ومستقبلها. إضافة إلى أن الكارثة تكرر تاريخها الشخصي كفلسطينية داخل خيمة إيواء. تاريخ متجدد من الكوارث.

كذلك تُنذر اللغة بالكارثة حين تكف عن كونها وسيلة للتواصل الإنساني، كما في «مياه جوفية» حيث اللغة العجيبة التي يتحدثها الطفل يوسف ولا يفهمها أحد، وفي انعدام التواصل بين الراوي وزوجته «هبة» وبينه وبين «سونج» الكورية. أو في العجز عن الكلام كحالة وليد طه في «سلطان قانون الوجود»، أو الزهد فيه كما يفعل الأب في قصة «غداء» والذي إن تكلم يتحول حديثه إلى صراخ وعراك.

من «إشارات الإنذار» التي يضمنها الورداني بين سطور القصص إيحاءاته إلى ما يعتمل تحت السطح، إلى باطن الأرض والأشياء والكلام. تتكرر الإشارة إلى ما تحت السطح المادي، والذي لا ينفي عجزنا عن رؤيته إمكانية وجوده. فالأرض تزهر قنابل في «أمل أعمى»، وسطح البحيرة المتجمد في «مياه جوفية» قد يتشقق في أي وقت ويؤدي إلى هلاك من فوقه. كذلك يحمل الكلام بين شخصيات القصص معانٍ ضمنية. تنبه تلك الإشارات إلى الإمكانية القائمة للكارثة. إنها دلالات للعنف الكامن.

الكارثة بين الورداني وبودريار

يقاوم هيثم الورداني غياب المعنى أو فقدان الإشارة/العلامة لدورها في الواقع إلى ما بعد حداثي. هذا الغياب مرجعه اغتيال الواقع نفسه وإبادته، كما يوضح الفيلسوف الفرنسي جان بودريار. يرى بودريار أننا انتقلنا من عصر الواقع إلى عصر «موت أو تحلل المبدأ المؤسس للواقع». ويؤكد أننا غارقون في عالم ما بعد حديث وأن «النمو المتسارع في الاتصالات الجماهيرية وتكنولوجيا المعلومات وغيرها، ولّدت حِملًا زائدًا من المعلومات، وهناك كثير من صور الحقيقة المتاحة، حتى باتت فكرة وجود عالم واقعي يمكننا أن نعلم حقيقته فكرة إشكالية». لذلك فالكارثة كما يراها بودريار تختلف عن تلك التي يكتبها الورداني. يبدع الورداني إشارات الإنذار كعلامات إبداعية في مواجهة الإفراط في الصور والإشارات داخل الواقع الفائق/المزيف بتعبير بودريار. يقظة الإبداع تواجه السُبات. الإشارات داخل القصص تهدف إلى إعادة خلق الواقع لا تأكيد موته. والورداني هكذا يقدم حساسية الكارثة من خلال الكشف عن مسارات وأشكال الانهيار. لكنه لا يكتفي بهذه المهمة التي اعتبرها بودريار مهمة الفكر الوحيدة، لأن أي محاولة ﻟ «استعادة الواقع مقضي عليها بالفشل». الذات الإنسانية في قصص المجموعة ترصد التحلل والانهيار علها بذلك تخلق إمكانية جديدة لواقع جديد. تخلق عمقًا للعالم الذي يصفه بودريار بأنه «بلا عمق»، كما يبين آلن هاو.

 كذلك تطرح النصوص سؤال الرغبة. الرغبة واللغة تحددان طرائق التواصل الإنساني، بهما يتحقق التواصل وبفقدهما ينعدم. الراوي في قصة «أمير الظلام» تحركه الرغبة وهي دافعه للمشاركة في الثورة والمظاهرات. يقول في كلمات دالة: «الحب سيرة الآمنين والباحثين عن مكان، أما المشردون أمثالي فسيرتهم الرغبة الآثمة. لا تثيرهم التوافقات والتناغمات التي يغزلها الحب، وإنما تخطفهم التشوهات والتنافرات التي تبعثها الرغبة».. «ما يخصني هو الرغبة، الرغبة هي ما اكتشفته في الشوارع ولا شيء آخر». وفي «الخطوة المعلقة» يلمح الراوي المفتقد للرغبة شحوبًا غريبًا لانعكاسه في المرآة. الشحوب هنا إشارة إلى انهيار رؤية الإنسان لنفسه كفرد متميز. وإذا كانت اللغة «هي ما يجوف الوجود ليجعله رغبة» بتعبير جاك لاكان، فإن غياب الرغبة يُخلف وراءه وجودًا أجوف، إن جاز التعبير. الراوي غير قادر على «التوحد الخيالي» مع صورة وجوده في المرآة. وحسب جاك لاكان، يرى الطفل انعكاسه بالمرآة كذات متكاملة موحدة. الذات وصورتها شيء واحد. لكن كلما كبرنا تنفتح فجوة وتظهر الاختلافات والانقسامات بين الأنا وصورتها، بين الذات والعالم، وبين اللغة والواقع.

 تعكس القصص «فكرة الفن»، بالمفهوم الرومانسي، بين شذراتها. أي أن يتجاوز العمل الفني حدوده ويصبح قادرًا على «الإشارة إلى ما هو أبعد منه» وعلى «إدراك علاقاته مع الأعمال والأجناس والأشكال الأخرى» من الفن والثقافة. كأن «ما لا يمكن إصلاحه»، كعمل فني فردي، ينطوي على مجمل الفن. يتحقق ذلك عبر طيف واسع من التناص مع أعمال فنية وتراث قصصي وديني: من «كليلة ودمنة» ومسخ «أوفيد» و«كافكا» إلى المعري ويوسف إدريس، وأيضًا التناص مع جملة من التصورات والرؤى الفكرية والفلسفية: مثل إعادة إنتاج قصة الذبيحة الفدائية، بتعبير رينيه جيرار، في «سلطان قانون الوجود» إلى محاكاة لنظرية «الانفجار الكبير» في «أمل أعمى»، والعود الأبدي لنيتشه، وغيرها من الأفكار التي تتضمنها النصوص في أصالة خاصة بها. إنها قصص رؤيوية عن المستقبل الذي لا نعرف ما الذي يخبئه لنا، ولا نملك إلا الانتباه إلى العلامات، حتى ونحن ماضون في مسارنا السيزيفي.

اعلان
 
 
محمد عمر جنادي 
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن