بمناسبة حالة الجمود التي وصل إليها الحراك الشعبي في كل من لبنان والعراق، ومن قبلهما في الجزائر، وبالمقارنة مع نجاح الحراك في تونس بدرجة كبيرة، ونجاحه في السودان بدرجة معقولة (حتى الآن)، تذكرت حوارًا نظمته الهيئة القبطية الإنجيلية بعد أيام من تنحي الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في فبراير عام 2011، حول مستقبل الحكم والسياسة في مصر، ودور شباب ثورة يناير في هذا المستقبل، وما إذا كان على هؤلاء الشباب أن ينخرطوا في تنظيمات سياسية قائمة أو مستجدة، أو أن يستحدثوا هم تنظيماتهم الخاصة.
كان رأي الصديق العزيز والمفكر الكبير الدكتور سمير مرقص أن ثورة يناير هي ثورة ما بعد حداثية بامتياز. ومن ثم فهي تتجاوز -ويجب أن تفعل- المفاهيم والأطر التقليدية للعمل السياسي في عصر الحداثة وما قبلها، من أيديولوجيات، أو أحزاب بل وحتى منظمات المجتمع المدني. وقد بدا يومها أن هذا الرأي لقي ترحيب من أغلب الحاضرين، بسبب موجات التفاؤل التي طالت السماء بنجاح الشعب المصري لأول مرة في تاريخه الطويل المرهق في خلع حاكمه، اعتمادًا على التواصل والتفاعل خارج تلك المفاهيم والأطر.
وأتذكر أنني كنت من المعارضين القلائل لرأي الدكتور سمير مرقص، وكان ملخص رأيي أنه لا مفر من التنظيم السياسي التقليدي ما دام المتفق عليه أن يتم تكوين مؤسسات الحكم واختيار أعضائها بالانتخاب، بما في ذلك الدستور الدائم الذي سيضعه جمعية تأسيسية انتخبها مجلس نيابي منتخب هو الآخر، وبما في ذلك طبعًا شخص رئيس الجمهورية، وأعضاء مجلس النواب. ومن ثم فعلى شباب يناير، وسائر القوى المشاركة في الثورة الانخراط في أحزاب، أو استحداث أحزاب جديدة تعبر عنهم وهذا هو الأنسب.
استشهدت بتجربة ثورات الشباب الأوروبية عام 1968، وكانت هذه الثورات قد بدأت شبيهة بثورة يناير المصرية من زاوية تجاوز الأحزاب والمؤسسات… قلت إنه على الرغم من النتائج الإجتماعية والثقافية الواسعة لثورات 1968 الشبابية الأوروبية، فإن نتائجها السياسية والاقتصادية ظلت محدودة، ولم تتجاوز استقالة الرئيس الفرنسى شارل ديجول ليخلفه جورج بومبيدو من الحزب الديجولي نفسه. وكذلك مشاركة الاشتراكيين الديمقراطيين بالحكم في ألمانيا. ثم أضفت أن قادة تلك الثورات انتبهوا متأخرين لهذه الحقيقة، فبدأوا في الترشح للانتخابات العامة، ثم تشكيل أحزابهم في تسعينيات القرن الماضي، ومن هنا نشأت أحزاب الخضر واليسار الجديد المتحالفة معهم، والتي كان جميع زعمائها وأعضائها من شباب 1968، وليصبحوا شركاء فاعلون في العملية السياسية الداخلية في بلدانهم، ونجومًا في السياسة العالمية مثل يوشكا فيشر وزير خارجية ألمانيا الأسبق، وكوهين بانديت نجم البرلمان الأوروبي وغيرهما.
بالعودة إلى أحدث حالات الربيع العربي في لبنان والعراق، وإلى الحالة الجزائرية التي يستمر فيها الحراك منذ أكثر عام، فإن استجابات السلطة في البلدان الثلاثة تظل محدودة ومحسوبة ولا تلبي مطالب الجماهير، وذلك يحدث في غيبة القيادة المنظمة لهذا الحراك. في حين تميزت الحالتان التي تحقق لهما قدر معقول من النجاح بين حالات الربيع العربي الأخرى -حتى الآن وهما تونس والسودان- بوجود قيادة منظمة للحراك الجماهيري، وللحوار بين أطراف العملية السياسية، بما في ذلك التفاوض مع السلطة، وكذلك بوجود حركة حزبية ونقابية ذات مصداقية جماهيرية وذات أبعاد وأفكار حداثية. فيما خلت الساحة في بلدان الربيع العربي الأخرى من هذه التنظيمات، التي إن وجد بعضها فإنه يكون منزوع الفاعلية، وتحت الوصاية البيروقراطية والأمنية، أو يكون ذا مضمون طائفي أو جغرافي.
نعرف جميعًا أن ما أنقذ تونس من العنف السياسي، والاستقطاب الحاد كان الحوار الوطني الذي فرضته ووضعت جدول أعماله وأهدافه وأدارته اللجنة الرباعية الشهيرة، وكانت مكونة من الاتحاد العام للشغل، والاتحاد العام للصناعة والتجارة، والرابطة التونسية لحقوق الإنسان، والهيئة الوطنية للمحامين، وهي كلها تنظيمات حداثية مسيسة، احتفظت بقدر من الاستقلالية والفاعلية حتى في أشد عهود السلطوية قمعًا تحت رئاسة زين العابدين بن علي للدولة. ولنأخذ تجربة الاتحاد العام التونسى للشغل كنموذج بشيء من التفصيل، فقد زاد نموه منذ منتصف ثلاثينيات القرن الماضي بلا انقطاع، وانخرط في الحركة الوطنية للاستقلال وأقام علاقات وثيقة تعاونية أحيانًا وصراعية في أحيان أخرى مع الحزب الدستوري الحاكم. كذلك امتلك مؤسسات اقتصادية وشركات مساهمة ناجحة ومستقلة تمامًا عن الادارة الحكومية، والأهم أن قياداته كانت تُنتخب دائمًا بعيدًا عن تدخل السلطة. باختصار لم يكن الاتحاد أداة للدولة للسيطرة على الطبقة العاملة، ولكنه كان دائمًا ممثلًا نقابيًا ملتزمًا بمصالح هذه الطبقة.
بالطبع لا يمكن التغاضي عن انعدام الطموح السياسي للجيش التونسي وتاريخه غير الانقلابي، وكذلك ضعفه النسبي مقارنًا بقوى الأمن الداخلي، بوصفه أحد أسباب نجاح التحول الديمقراطي المدني في تونس (حتى الآن). ولا يمكن أيضًا إغفال اعتدال حركة النهضة الممثلة لتيار الإسلام السياسىي هناك بوصفها أيضًا من الأسباب المهمة. ولكن وجود هذين السببين ما كان يكفي لعبور الفترة الحرجة التي تلت سقوط النظام القديم لولا مبادرات وقوة أطراف اللجنة الرباعية، ومصداقيتها الجماهيرية، وتعبيرها عن كتل اجتماعية لها ثقلها. ولولا وجود ثقافة الحوار واحترام التعددية التي عبر عنها تشكيل تلك اللجنة، فقد جمعت مثلا بين الرأسمالية ممثلة في اتحاد الصناعة والتجارة، وبين طبقة العمال ممثلة في الاتحاد العام للشغل، وبين المهنيين الليبراليين ممثلين في المحامين، وكذلك رابطة حقوق الإنسان.
ربما تكون الحالة السودانية أكثر دلالة على أهمية وجود القيادة المنظمة للحراك لسببين: الأول هو سيطرة المؤسسة العسكرية أصلًا على السلطة على خلفية خبرة سابقة لهذه المؤسسة في الاستيلاء على الحكم في السودان مرتين من قبل. والثاني هو خبرة القوى المدنية في الإطاحة بالحكم العسكري مرتين أيضًا قبل هذه المرة الثالثة، بالانتفاضات والثورات الشعبية. وبما أن مجريات ومآلات الانتفاضة أو الثورة الأخيرة في السودان لا تزال قريبة العهد، فلا خلاف على أن قيادة تجمع المهنيين للعمل الميداني وصولًا إلى العصيان المدني من جهة، وللتفاوض مع السلطة من جهة ثانية، والتفاوض أيضًا مع الوسطاء الإقليميين (إثيوبيا في هذه الحالة ممثلة للاتحاد الأفريقي)، ومع المبعوثين الدوليين، كانت هي العامل الرئيسي في إنجاح الحراك. وكذلك بمشاركتها في مجلس السيادة وبفرض تشكيل حكومة مدنية، وبالمشاركة المؤثرة في صياغة ترتيبات الفترة الانتقالية.
ولا خلاف أيضًا على أن دور تجمع المهنيين في قيادة ثورة 2019/2018 السودانية هو امتداد لدورهم في قيادة ثورة أكتوبر عام 1964، التي أسقطت حكم الفريق إبراهيم عبود وأعادت الحكم المدني. ودورهم في إسقاط نظام المشير جعفر النميري عام 1985، مع أوجه اختلاف إيجابية ومهمة سنتطرق إليها حالًا.
في ثورة 1964 كان المهنيون أحد أضلاع مثلث قاد هذه الثورة، وقد عرفوا وقتها باسم «جبهة الهيئات»، وكانت تضم النقابات المهنية والاتحادات الطلابية. أما الضلعان الآخران فكانا حزب الأمة الممثل التقليدي لطائفة الأنصار المنحدرة من الثورة المهدية، والحزب الاتحادي الممثل التقليدي للطائفة الختمية في شمال وشرق السودان. وعلى الرغم من أن جبهة الهيئات نجحت في البداية في فرض خبير التعليم المرموق سر الختم خليفة (غير الحزبي) رئيسًا للحكومة المدنية الانتقالية، إلا أنه سرعان ما أسفرت مناورات الشريكين الآخرين (حزب الأمة والحزب الاتحادى) عن اختزال المرحلة الانتقالية بإجبار الحكومة على إجراء انتخابات مبكرة عن موعدها المتفق عليه، لكي تؤول لهما السلطة. وكانت هذه بداية النهاية لثورة أكتوبر، فقد نشبت الخلافات -كالعادة- بين الشريكين، مما سهل على الجيش العودة للاستيلاء على الحكم بانقلاب مايو 1968 بقيادة جعفر النميري.
كذلك كان دور المهنيين حاسمًا في الثورة ضد النميري نفسه عام 1985. ولمن يتذكر فقد تشكلت الحكومة المدنية الانتقالية هذه المرة برئاسة نقيب الأطباء الدكتور جزولي دفع الله، وقد كان هو نفسه متعجلًا لإنهاء الفترة الانتقالية، ظنًا منه -وهو المتعاطف مع تنظيم الإخوان المسلمين- أن إجراء انتخابات عامة في وقت لا تزال فيه ذكرى إسقاط النميرى حية سوف يأتي بهذا التنظيم المعروف باسم الجبهة القومية إلى السلطة. ولكن النتائج خيبت آماله، وأعادت الحزبين التقليديين إلى البرلمان والحكم مع تفوق واضح لحزب الأمة، لتنفجر الصراعات من جديد بين الحزبين خصوصًا حول الحرب في جنوب السودان، ومبادرات تسويتها سلميًا… وليعود الجيش إلى الانقلاب بقيادة عمر البشير عام 1988.
يفترض أن تجمع المهنيين القائد لثورة السودان الجديدة قد وعي أسباب فشل الثورتين السابقتين في إقامة حكم مدني ديمقراطي مستقر ومستدام. فقد رفض التحالف في مرحلة الثورة والتفاوض مع أي من الأحزاب التقليدية، وفي الوقت نفسه أبان بوضوح قاطع انحيازه لمفهوم الديمقراطية الليبرالية. ليس فقط استيعابًا لدرس نكسة الثورة ضد النميري، ولكن أيضًا لأن هذه الثورة الجديدة في السودان نشبت في الأصل ضد ديكتاتورية وفساد نظام عمر البشير، المنبثق أصلًا عن الجبهة القومية بوصفها الفرع السوداني لجماعة الإخوان المسلمين.
الشاهد من هذه السردية هو أن تجمع المهنيين السودانيين الذي قاد ثورة 2019/2018، يعد امتدادًا بالخبرة والتقاليد للدور الرئيسي للتنظيمات النقابية بأنواعها في الحياة السياسية السودانية كافة. وهو دور مكمل أو بديل في بعض الأحيان للحركة الحزبية، ولكن ما كان للنقابات أن تكون بهذه القوة لولا وجود تربة ومناخ مناسبين من التعددية السياسية. إذ لم ينجح الحكم العسكري الذي توالى على السودان ثلاث مرات في اجتثاث الأحزاب وتدمير الحياة السياسية، تمامًا كما فعل نظام يوليو 1952 في مصر مثلًا. ولم ينجح جنرالات السودان -بالتالي- قط في تكريس المعادلة المختلة المتمثلة في سلطة قوية مقابل مجتمع ضعيف، كحالة مصر وسوريا والعراق والجزائر.
قد يقتضي السياق هنا أن نتطرق لأسباب عجز الضباط الانقلابيين السودانيين عن استنساخ التجربة المصرية ومثيلاتها، ولكننا نكتفي الآن بإجمالها في اختلاف أو تنوع التركيبة الاجتماعية والجغرافية للسودان إلى حد التشتت، بما يفرض بالضرورة حدودًا لقوة السلطة المركزية.
بالعودة إلى المقارنة التي بدأنا هذه السطور بها بين الحالتين التونسية والسودانية، وبين حالات الجزائر ولبنان والعراق (ومن قبلهم مصر)، قد يرد تحفظ على تحليلنا السابق، هو أن هذه الدول الأربع تقر التعددية الحزبية. وإذا كانت الحياة الحزبية في الجزائر ومصر شكلية، فهي ليست كذلك في العراق ولبنان على الأقل. ولكن ما يشل فاعلية الأحزاب في الدولتين الأخيرتين عن قيادة حراك جماهيري، هو عجزها عن تجاوز انبثاقاتها الطائفية شديدة التعصب والجمود، بل إن هذه الوصمة الطائفية هي نفسها من محركات الثورات الشعبية.
ومن الضروري هنا الإشارة إلى تأسيس «تجمع مهنيات ومهنيين» في لبنان خلال الانتفاضة الحالية، هادفًا إلى تجاوز التقسيم الطائفي للمجتمع، والتقدم بالصراع الاجتماعي والاقتصادي والنقابي إلى الواجهة.
أما في حالة مصر والجزائر، فالأحزاب معدومة الدور والتأثير بفعل فاعل من السلطة المستمدة من المؤسسة العسكرية. ولكن ما يجمع بين مصر والجزائر والعراق ولبنان هو غيبة القيادة الجماهيرية للمجتمع للضغط والتفاوض مع السلطة، في غيبة دور الأحزاب للأسباب التي سبقت الإشارة إليها توًا حسب كل من الحالات.
مرة أخرى وأخيرة، التنظيم هو جوهر العمل السياسي. أو كما يقال في الدرس الأول لطلبة العلوم السياسية، فإن تعريف المجتمع السياسي أنه هو المجتمع المنتظم، ويترتب على ذلك منطقيًا أن أي تحرك جماهيري يستهدف التغيير أو الإصلاح في مجتمع سياسي لا ينجح دون تنظيم.. أو تنظيمات تحتضن هذه الأهداف وتضغط أو تتفاوض لتحقيقها.
عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر
أشترك الآن