بدأت لجنة التحقيق الوطنية المستقلة اﻷيام الماضية مباشرة عملها في أحداث فض اعتصام آلاف السودانيين أمام مقر القيادة العامة للجيش في الثالث من يونيو الماضي. وقالت اللجنة قبل يومين إن جميع الصور والفيديوهات «مقبولة قانونًا بعد فرزها ووزنها وتقييمها والتأكد التام بأنها لم تتعرض للعبث»، في إشارة إلى العدد الكبير من الصور والفيديوهات التي تناقلتها مختلف شبكات التواصل الاجتماعي لجنود يرتدون الزي الرسمي أثناء فض الاعتصام.
وحلفت اللجنة القسم أمام رئيس الوزراء السوداني، عبد الله حمدوك، خلفًا لسابقتها التي عُزلت بعد انتقادات واسعة واجهتها بسبب محدودية صلاحياتها.
في تصريح نقلته صحف محلية بالخرطوم عقب أدائه القسم اﻷربعاء، شدد رئيس اللجنة، نبيل أديب، على التمسك باستقلالية اللجنة، واستدعاء كل من له صلة بتلك الأحداث، مشيرًا إلى أن مهمة اللجنة تتمثل في معرفة حقيقة ما تم في 3 يونيو أمام القيادة العامة وعدد القتلى والمصابين والمفقودين، وتحديد المسؤولين عما وصفها بـ «المجزرة»، وتحديد المسؤوليات الجنائية، منوهًا إلى أن عمل اللجنة شبه قضائي. وأضاف: «تعهدنا بأن ننظر في البيانات التي تصلنا ونقيمها ونحدد المسؤوليات التي تكشف عنها البيانات، وستبدأ اللجنة عملها فورًا ولن تنحاز لجهة وستستدعي أي شخص له صلة بما حدث».
«تحقيق العدالة بتجرد وإنصاف لعشرات الضحايا الذين سقطوا في المجزرة»، هكذا أجمل عبداللطيف السيد، عضو تنسيقية لجان مقاومة أحياء شرقي العاصمة الخرطوم، في تصريحات لـ «مدى مصر» ما يتمناه من اللجنة، مضيفًا: «خلال الفترة الماضية أحصينا ملفات أكثر من سبعة شهداء في منطقتنا وننتظر اللجنة المستقلة لتسليمها الملفات، ومن ثم انتظار النتائج»، مشيرًا إلى أن «الفاعل بالنسبة لنا شبه معلوم، لكننا ننتظر حكم القضاء المستقل في عهد الحكومة المدنية الانتقالية».
ما يذهب إليه عبداللطيف بأن الفاعل في عملية فض الاعتصام شبه معروف، يتحدث السودانيون عنه في مجالسهم كلما تحدثوا عن مجزرة فض اعتصام القيادة العامة، معتبرين أن المجلس العسكري الحاكم وقتها، والشريك في الحكم حاليًا، مسؤول عن المجزرة، وهناك عشرات اﻷدلة والتصريحات المباشرة لقادة المجلس العسكري بتنفيذ عملية الفض.
هذا الواقع وضع الحكومة الانتقالية في البلاد، لاسيما شقها المدني، فيما يشبه المأزق، وجعلها تحت ضغط تحقيق العدالة وتقديم الجناة إلى محاكمات عادلة تقتص لقتلى مجزرة فض اعتصام القيادة الذين تقول قوى إعلان الحرية والتغيير في البلاد إن عددهم بلغ 129 قتيلًا وعشرات الجرحى من ناحية، وإمكانية أن يكون ضمن هؤلاء الجناة بعض من شركاء الحكم من العسكريين اﻵن.
بدأت فعليًا حالة الارتباك في أروقة الحكومة الانتقالية إزاء عملية تشكيل لجنة التحقيق، عندما أصدر رئيس الوزراء السوداني في 22 سبتمبر قرار تشكيلها في آخر يوم لانتهاء اﻷجل الذي قررته الوثيقة الدستورية بمدة شهر. جاء القرار بتشكيل لجنة مستقلة للتحقيق في أحداث فض اعتصام القيادة العامة والأحداث التي وقعت إبان تولي المجلس العسكري للحكم بعد سقوط البشير.
ضمت اللجنة سبعة أعضاء في عضويتها: قاضي محكمة عليا رئيسًا، وممثلون عن وزارات العدل والدفاع والداخلية، بالإضافة لشخصية قومية مستقلة، ومحامين مستقلين. وتكون للجنة جميع سلطات التحقيق الواردة في قانون لجان التحقيق 1954، كما يحق لها الاستعانة بمن تراه مناسبًا، بما في ذلك الاستعانة بدعم أفريقي واستلام الشكاوى من الضحايا وأولياء الدم والممثلين القانونيين. وتكمل اللجنة أعمالها خلال ثلاثة أشهر، ويحق لها التمديد لمدة مماثلة إذا اقتضت الضرورة ذلك.
أسفر هذا القرار عن حالة كبيرة من السخط وسط قوى التغيير بسبب أنها تأسست طبقًا لقانون لجان التحقيق، والذي لا يخول للجنة إحالة المتهمين للمحكمة ويقتصر دورها على تقصى الحقائق والتوصل إلى نتائج.
لهذا مارست هيئات قانونية مستقلة وتيار عريض داخل قوى إعلان الحرية والتغيير ضغوطًا على الحكومة. استجابت الحكومة وأعلنت في 21 أكتوبر عن لجنة جديدة ذات صلاحيات مختلفة.
تتشكل اللجنة الجديدة من المحامي نبيل أديب، رئيسًا، والذي تتسم سيرته المهنية بالاستقلالية، وعثمان محمد عثمان، مقررًا، إلى جانب محامين وأعضاء في النيابة العامة عرف عنهم مناصرتهم للثورة السودانية وكانوا أعضاء في تجمعات وتحالفات مدنية مناهضة لنظام الحكم السابق.
ومنح القرار اللجنة صلاحيات «التحقيق بغرض تحديد الأشخاص المسؤولين عن فض الاعتصام بالتحريض أو المشاركة أو الاتفاق الجنائي أو ارتكاب أي انتهاكات أخرى، بجانب تحديد وحصر عدد الضحايا من القتلى والمصابين والجرحى والمفقودين، وقيمة الخسائر المالية والجهات والأشخاص المتضررين من ذلك.
ويحق للجنة استدعاء أي شخص أو مسؤول حكومي أو نظامي أو موظف عام بغرض الإدلاء بشهادته أو التحقيق. كما أكد قرار تشكيلها على «طلب العون الفني من الاتحاد الأفريقي عبر وزارة الخارجية»، وألزم القرار وزراء الدفاع والداخلية والصحة ومدير جهاز المخابرات بتسهيل مهامها. كما حدد مدة عمل اللجنة بثلاثة أشهر يجوز تمديدها بناءً على توصيتها لمدة مماثلة، على أن ترفع تقريرًا شهريًا عن سير أعمالها لرئيس الوزراء.
عمليًا، وبحسب القانوني شوقي يعقوب، فإن قرار تشكيل اللجنة الأخير اختلف في الصلاحيات عن القرار الأول، بعد حصولها على صلاحيات النائب العام، وبالتالي يحق لها إحالة المشتبه فيهم مباشرة إلى المحكمة. يقول يعقوب لـ «مدى مصر»، إن «فحوى المادة 30 من قانون النيابة العامة تجيز للنائب العام القبض واﻹحالة للمحكمة».
لكن نص قرار اللجنة الجديدة يتشارك مع قرار اللجنة القديمة أخطاءً، بحسب قانويين، أبرزها مشاركة العسكريين من وزارتي الدفاع والداخلية في اللجنة.
كذلك قصر القرار تحقيقات اللجنة الجديدة على فض اعتصام القيادة العامة، متجاوزة عن الانتهاكات التي ارتكبتها عناصر النظام السابق إبان انتفاضتهم الشعبية أو الانتهاكات الأخرى التي وقعت إبان فترة حكم المجلس العسكري للبلاد بعد إجبار الرئيس عمر البشير على التنحي في 11 أبريل الماضي.
يشير شوقي إلى أنه كان يفضل أن يتم تشكيل اللجنة بالصلاحيات التشريعية الممنوحة لمجلسي الوزراء والسيادة بنص الوثيقة الدستورية لحين تشكل المجلس التشريعي وإصدار تشريع تتشكل بموجبه اللجنة، حيث يرى قانونيون أن تشكل اللجنة بموجب تشريع يحصنها من أي تدخل من أي سلطة.
مصدر قانوني، طلب عدم ذكر اسمه، رصد اهتمامًا متزايدًا لبعثات وسفارات الدول الغربية واﻷوروبية في السودان لمسألة التحقيق في أحداث فض اعتصام القيادة العامة للجيش. وقال المصدر لـ «مدى مصر»، إنه «خلال الأيام الماضية ومن خلال وجودي في الحقل القانوني حضرت اجتماعات عدة من بينها اجتماع مع وفد المقدمة لمفوضية حقوق اﻹنسان التي تعتزم افتتاح مكتب قُطري في البلاد، فكل هذه الاجتماعات تركزت على معرفة الآراء حول لجنة التحقيق في مجزرة فض الاعتصام». وأضاف المصدر أنه «ربما يرون خطرًا محدقًا يحوم حول البلاد بعد إعلان نتائج تحقيق تدين العسكر الذين يشاركون في السلطة الآن. وبما يدرس المجتمع الدولي من زاوية إيجاد مخرج من اﻷزمة».
وعلى الجانب المحلي، يسود الرأي العام السوداني حالة من الترقب إزاء ملف العدالة وأحداث مجزرة فض اعتصام القيادة العام. يذهب بعض القوى السياسية الثورية إلى إجراءات سريعة وناجزة تجاه مرتكبي جرائم القتل في حق السودانيين، وترنو أنظارهم في هذا الاتجاه إلى قادة المجلس العسكري الذي وقعت في عهده المجزرة، وتحمّل قادته بما فيهم رئيس مجلس السيادة، الفريق عبد الفتاح البرهان، القائد اﻷعلى للجيش، ونائبه في مجلس السيادة وقائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو، ونوابهم العسكريين في مجلس السيادة، المسؤولية مباشرة.
فيما يقول قيادي في قوى إعلان الحرية والتغيير إن الرهان على عدالة ناجزة وسريعة سيضع البلاد على كف حرب أهلية طاحنة. يضيف القيادي، الذي فضل عدم نشر اسمه، وهو محسوب على تيار ما يعرف بالهبوط الناعم، والذي يدعم تغييرات تدريجية دون اللجوء لإجراءات عنيفة، أن «قضية العدالة ليست أولوية في هذا التوقيت ويجب أن يكون تحقيق السلام وتحسين الاقتصاد أولوية».
ويتابع القيادي في مقابلة مع «مدى مصر» أنه «إذا اعتبرنا أن الشق المدني في مأزق أمام الشق العسكري في الحكم.. هذا واقع، لكن ما الحل؟ الحل يكمن في إدارة حكيمة لملف العدالة يجنب البلاد خطر الحرب أو على اﻷقل الانقلاب العسكري على حكومة الثورة».
يشير المصدر إلى أن اللجنة التي تم تشكيلها برئاسة المحامي نبيل أديب ضمت إلى جانبه مجموعة كبيرة من القانونيين المعروف عنهم النزاهة ودعمهم للثورة السودانية. ويضيف «أعلم أن رئاسة نبيل أديب للجنة تمت مواجهتها بانتقادات واسعة لجهة أنه محسوب على تيار الهبوط الناعم، لكني أعلم أيضًا أنه لا قرار سياسي من قوى الحرية والتغيير للتأثير على عمل اللجنة».
عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر
أشترك الآن