ربما من أبرز الملامح الإخراجية لفيلم 30 يونيو 2013، هو تلك الصور الأيقونية التي صورتها الطائرات للمظاهرات الحاشدة، والتي ربما كانت الأولى من نوعها، على مدار السنتين ونصف، عمر الثورة المصرية التي عجت بالمظاهرات أشكال وألوان. كان من المثير أن نعرف أن مخرج هذه القطعة الفنية هو الفنان المناضل خالد يوسف، ليكون أحد وجوه 30 يونيو.
ثم.. وبعد مرور خمس سنوات. في 11 يونيو 2018، مظاهرات أونلاين عارمة للوسط السينمائي المصري، بسبب قرار الإدارة المركزية للرقابة على المصنفات الفنية، سحب ترخيص آخر أفلام نائب البرلمان المصري والمخرج المعروف خالد يوسف، وأول أفلامه بعد 25 يناير: «كارما». بيانات تنديد، واستقالات جماعية، ومناشدات لرئيس الجمهورية، لإنقاذ حرية الإبداع. لم تمضِ ساعات إلا وكانت الأزمة تم حلها، ليلًا. أزمة بورق حكومي موقع ومختوم حدثت في الظهيرة، ثم وبطريقة ما، تم حلها بعد منتصف الليل، ليخرج خالد يوسف الساعة الخامسة فجرًا ويعلن انتهاء الأزمة.
قبل أن أتكلم عن الواقعة ورد الفعل عليها من الوسط السينمائي والثقافي، أود سرد بعض المعلومات عن تاريخ الرقابة، لنعرف مع أي جهة نتعامل.
كل ما سبق هو مقتطفات من كتاب «تاريخ الرقابة على السينما في مصر» لـ سمير فريد، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وقد قصدتُ سرد مجموعة من الحقائق التاريخية، ليس بغرض استعراض الصراع الدائم والمستمر بين الأعمال الفنية والرقابة، إنما لتأكيد المفهوم المبدئي والتأسيسي لفكرة صدور قوانين أو قرارت رقابية، أو فيما بعد إنشاء أجهزة مختصة بالرقابة، مهمتها الأولى والأخيرة هي «ضبط» مناخ صناعة الأعمال الفنية. فهدف «الضبط»، وكما هو واضح من التتابع التاريخي، هو المعبّر الجوهري عن السياق والمزاج السائد للسلطة السياسية.
ورغم أن تاريخ الرقابة في مصر قد شابته مجموعة من المحاولات التي كان هدفها بالأساس محاولة خلق سياق للنقاش والأخذ والرد ومحاولة لعب دور مستقل، إلا أن جهاز الرقابة بالأساس هو ذراع الدولة المصرية للمنع والتضييق، وليس لتمكين حرية الإبداع إلا في لحظات قليلة جدًا.
فدور الرقابة الأساسي هو «المنع»، بل إنها لا تظهر في الصورة بالأساس إلا في لحظة المنع. فخروج الأعمال الفنية للجمهور، هو النتيجة الطبيعية والمنطقية لأي عملية فنية. وموقع الرقابة في تلك المنظومة هو موقع المعطِّل. بالتالي، نتذكرها فقط حينما تُصدر قرارًا بمنع فيلم، وتحدث حالة استنكار، ويبدأ الجميع في التفوّه باسم (الرقابة) كجهاز على الملأ. إنما في حالة مرور الفيلم من الرقابة، فلن يبادر أي فنان بإصدار بيان شكر لها لسماحها (دون اعتراض) على عمله الفني.
وعليه، ففي كل مرة يخرج أحد مندهشًا/متفاجئًا من منع الرقابة لعمل فني ما، يطرح عقلي مباشرة هذه الأسئلة: هل المندهش من المنع يظن أن للرقابة دورًا آخر تلعبه غير المنع؟ وهل اندهاشه هذا مبني على عدم توقع منع عمل فني معين -خصوصًا ونحن في سياقنا السياسي/الاجتماعي المحلي المعاصر؟ أم هو اندهاش من حدوث المنع دون إبداء أسباب؟ وهل المنع يجب أن يلحق به سبب؟ وفي حال توفره، فهل سيكون مبررًا للمنع؟.
يستمر عقلي في طرح تلك التساؤلات حتى ينتهي موضوع الخلاف، سواء باستمرار المنع كفيلم «آخر أيام المدينة» لـ تامر السعيد، أو السماح به مرة أخرى بعد ساعات من سحب ترخيصه، كحالة فيلم «كارما» لـ خالد يوسف. وما يزيد تساؤلاتي حول الاندهاش، أنه يصدر أحيانًا من فنانيين وأفراد معنيين بالمشهد الفني والثقافي المحلي.
وتكون النتيجة الطبيعية لتساؤلاتي تلك واستغراقي فيها، هو عدم تمكني من اللحاق بسباق الدعم والتضامن غير المشروط مع أصحاب الأعمال الممنوعة إلا في لحظات قليلة جدًا، فأنا لا أندهش ولا أفزع لأن هذا هو الطبيعي. لكن أخيرًا اقتنعت أن قليلًا من الفزع من قرارات رقابية كالمنع والحظر وخلافه لن يضر، بل أحيانًا يصبح من الضروري أن نُفزع، لكن دون الاستغراق في الفزع.
إنما تلك الحالة الهيستيرية من المفاجأة والاندهاش والاستغراب من ما وصلت له حرية الإبداع في مصر؛ فهو أمر في غاية الملل في الحقيقة، فإما أن المندهشين يعيشون في بلد آخر، وعلاقتهم بجمهورية مصر العربية تكاد تكون منعدمة، أو أنهم في حالة إنكار تام يحتاج لتدخل طبي.
وتحسبًا لنوبات الفزع القادمة، أود أن أوضّح للعلم، أن هيئة الرقابة على المصنفات الفنية لديها خطة مستقبلية لإحكام السيطرة على كافة السياقات الفنية، سواء بالعاصمة أو خارجها، بعدما أصدرت وزيرة الثقافة، إيناس عبد الدايم، يوم الإثنين 13 مارس 2018 قرارًا بإنشاء فروع ومقرات للرقابة على المصنفات الفنية داخل قصور الثقافة في 7 محافظات، وهي: «الجيزة، جنوب سيناء، أسيوط، الأقصر، أسوان، مرسى مطروح، والبحر الأحمر». وهذا القرار سارٍ اعتبارًا من أول أبريل الماضي، تيسيرًا وتبسيطًا للُمبدعين والمواطنين، وتطبيقًا لمبدأ اللامركزية.
في 11 يونيو 2018 أصدرت الإدارة المركزية للرقابة على المصنفات الفنية قرارًا إدرايًا رقم 5 لسنة 2018 بسحب التراخيص الخاصة بعرض فيلم «كارما»، وقد صدر القرار مختومًا بختم النسر وموقعًا من الدكتور خالد عبدالجليل، ومدعومًا بأرقام القوانين التي تم الاعتماد عليها قبل إصدار القرار، وذلك لمخالفة الفيلم المذكور شروط الترخيص الممنوحة له.
هنا نحن أمام قرار إداري سليم مدعوم بالقوانين والأختام والتوقيعات، وموجه بشكل مباشر للجهات المختصة لتنفيذ اللازم حياله، فتحية للرقابة المركزية التي تنتهج النهج المناسب في التعامل مع المنع، بقرار إداري صادر ومكتوب، يُعتبر وثيقة قانونية يستطيع الفنان أن يتخذ حيالها الإجراءات القانونية التي يرى أنها مناسبة. فبدون ورقة كتلك لا يستطيع الفنان أن يُثبت أي شيء، فتحية للرقابة لإصدارها قرار مكتوب.
في المقابل، وكردة فعل على ذلك القرار الذي سيعتبره أي فنان يحترم نفسه ومهنته هو طريقة للتضييق على حرية الإبداع وتعدٍ سافر على حق الجمهور في تلقي المنتجات الإبداعية، وممارسة وصاية وسلطة أخلاقية الخ؛ أصدرت مجموعة من الفنانيين والشخصيات العامة بيانًا (متفاجئًا ومندهشًا) من هذا التعدي السافر على القانون، متسائلين باستهجان: «هل نغازل قوة مصر الناعمة بألسنتنا ونذبحها بأيدينا؟ فيعرض الفيلم عربيًا ودوليًا ويحظر في وطنه؟ هل نواجه التيارات الظلامية ببذل أغلى الدماء في سيناء، ثم نعطيها مددًا سحريًا بحجب فيلم يكشف ما بثه الظلاميون في جسد الوطن الواحد من سموم طائفية مقيتة؟ هل يتحدث الدستور عن ثورتي 25 يناير و30 يونيو، ثم نفتح النار على أحد رموزهما المعارضة وهو المخرج «خالد يوسف»، فيحارب في البرلمان أولا وفي عمله الإبداعي ثانيا؟».
كتب الموقعون بيانهم، وكأن الواقعة أمر يحدث للمرة الأولى في مصرنا الحبيبة، فاستخدموا نبرة الأسى والحزن والفجيعة. وفي الواقع، فأي متابع لمستجدات الأوضاع في مصر، يعرف كيف للفقرة السابقة أن تشرح بصبر ودقة الظاهر والخفي من الطريقة التي يرى بها الموقعون على البيان مواقعهم ومواقع الآخرين في مشهد صناعة السينما (على اتساعه) بشكل خاص، وفي السياق السياسي والاجتماعي لمصر بشكل عام، حيث رأى الموقعون بالنهاية أن التعامل الأمثل هو بمناشدة رئاسة الجمهورية لـ «إعادة الأمر في نصابه والكوكب في مداره»، ولم يذكروا في الحقيقة ماذا في حال تم إعادة الأمر في نصابه والكوكب في مداره، ما هي خطتهم الواضحة لعدم تكرار الواقعة.
في الحقيقة لن أقوم بسرد عشرات المواقف والأحداث والفجائع (الحقيقية) التي سبقت تلك الـ «فاجعة الحزينة» والتي كانت على مرأى ومسمع كل الموقعين، وعلى مرأى ومسمع الأساتذة أعضاء لجنة السينما بالمجلس الأعلى للثقافة والذين بدورهم قدّموا استقالة مسببة عبر بيان شديد اللهجة، دقيق الصياغة، قوي المنطق، يحمل على عاتقه مسؤولية إنقاذ الصناعة من البطش والقمع. ولعل تلك الاستقالة كانت أفضل من البيان، على الأقل، حملت موقفًا سياسيًا واضحًا، مطالبة بوجود خطة لدعم حرية السينمائيين.
أثار موقف الموقعين على البيان الأول، والذين اعتبروا أن فيلم خالد يوسف «قوة ناعمة لمحاربة الشر» حفيظة العديد من الفنانين والسينمائيين. فلم يفهم أحد ماذا يعني ذلك بالتحديد؟ هل أن الأعمال الأخرى الممنوعة ليست بالنعومة الكافية لمحاربة الشر، أم أن هناك دليل وقواعد وكتالوج واضح لكيفية صناعة عمل ناعم «قَوي التأثير يواجه قُوى الظلام الشريرة»؟ أم أن الأمر متعلق بشخص الأستاذ خالد يوسف؟ أم هو متعلّق بقطاع محدد ومعين من صناعة السينما في مصر، والتي تعاني من أزمة كبيرة جدًا، وهي عدم وجود صناعة من الأساس. أسئلة حائرة تطرح نفسها، لكنها لا تنتظر إجابة، فهي ستظل حائرة. اتركوها حائرة.
أظن أن الحلقة الاخيرة في مسلسل منع «كارما» جاءت كيفما يتمناها أي مبدع يُمنع له منتج، بأن سحبت الرقابة قرارها بمنع الفيلم واعتبرته لاغيًا وألزمت الجهات المختصة بتنفيذ ما يترتب على هذا الإلغاء من آثار، وبالتأكيد لابد وأن نشير أن قرار الإلغاء ذلك صدر هذه المرة أيضًا مكتوب ومختوم ومدعوم بالقوانين، وموقع من رئيس الجهاز المركزي للرقابة على المصنفات الفنية.
لعل الجميع يعلم بأن الأستاذ/المهندس خالد يوسف المخرج السينمائي وعضو مجلس النواب عن دائرة «كفر شكر»، كان له تاريخ نضالي كطالب ناصري في الثمانينيات في كلية من كليات القمة (هندسة الزقازيق)، ومن ثَم رئيسًا لاتحاد طلاب جامعة الزقازيق (كلية الهندسة بشبرا) فرع بنها سنة 88- 1989. وحسب صفحته على ويكيبيديا فقد «قاده العمل الطلابي للاقتراب من كبار ساسة ومثقفي ومبدعي مصر مثل يوسف شاهين الذي نصحه بالعمل في السينما عندما لمس أن لديه موهبة ما فعرض عليه التعرف على عالم السينما من خلال الاشتراك في فيلم روائي تسجيلي قصير «القاهرة منورة بأهلها» فأسند له دورًا تمثيليًا بالإضافة إلى تدريبه على الإخراج، وسرعان ما اكتشف في نفسه ميلًا وانجذابًا للإخراج، فانضم إلى كتيبة طالبي العلم من مدرسة يوسف شاهين».
في العام 1992 أصبح يوسف مساعدًا ليوسف شاهين في فيلم المهاجر، وتوالت من بعدها الأعمال، ليصبح يوسف هو المساعد الرئيسي لشاهين، حتى أنه حمل على عاتقه بالكامل تنفيذ فيلم «هي فوضى» 2007، والذي كان آخر أعمال شاهين.
وتأتي ثورة يناير 2011 ويكون خالد يوسف هو وجه من وجوهها التليفزيونية، وتأتي 30 يونيو ليصبح أيضًا وجه رئيسي من وجوهها، وتأتي الانتخابات البرلمانية فيصبح نائبًا ووجه من وجوه الجماهير في البرلمان، ولكن هذه المرة حامل للقب المهندس/خالد يوسف، ويصبح مثار جدل كبير.
هو المناضل، الناصري، الفنان المثير للجدل، المضطهد رقابيًا، وأيضًا الوطني المخلص، الشاكر لجهود المسؤولين في السماح لفيلمه بالعرض. ويصبح فيلمه «كارما» هو «الفيلم الممنوع» المضطهد الذي ما كان ليُعرض إلا بمواجهة حاسمة شاكمة قوية من جموع السينمائيين، ليصبح خالد يوسف صورة مكتملة لتصورات التيار السائد عن الفنان «المعارض» الذي يقف خلف وطنه في محنته، أي خلف سلطتها السياسية، المتفوق الذكي – وفقًا لتصورات التيار السائد أيضًا – الذي يحافظ على الخيط الرفيع بين المعارضة وبين الحفاظ على الوطن من الفتن، الداعم للسلطة وقت الأزمة والمعارض البنّاء لها، الذي يلتزم الصمت وقت أن تواجهه السلطة بقرار منع فيلمه، لكن ثقته فيها تجعله على يقين من أن رمز مكتمل مثله لن تتركه السلطة على قارعة الطريق بلا ورقة مكتوبة (بالمنع)، ولا سبب واضح للحظر، ولا حتى هامش للتفاوض والنقاش، كما يحدث مع الآخرين الذين ليسوا خالد يوسف.
عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا.
اعرف اكتر