تختلف طبيعة المكان الذي تدخله حسب الشارع الذي تختاره من بين الشوارع القليلة المتعامدة التي تشكل عزبة الفرن بمركز أبو قرقاص بالمنيا. استقبلني بعض السيدات عند مدخل أحد شوارع العزبة على بعد أمتار قليلة من البيت الذي يستخدمه الأهالي ككنيسة، والذي يتمركز خارجه فرد أمن.
شرحت لي إحداهن الوضع في العزبة: «احنا هنا مسيحيين، بعد المبنى الملون اللي هناك ده مسلمين»، قالت مشيرة لمنزل على بعد 100 متر، يقع مباشرة بعد الكنيسة، «احنا قبلي وهم بحري»، أضافت موضحةً أن الشوارع على جهة اليمين من شارعهم يسكنها مسلمون، بينما الشوارع على اليسار يسكنها مسيحيون.
كانت العزبة شهدت توترًا الشهر الماضي بعدما منع الأمن الأقباط من تأدية شعائر عيد العذراء بالكنيسة بدعوى أنها غير مرخصة. لجأ أقباط العزبة لأداء صلوات العيد في الشارع بعد منع الأمن، وانتهت الأزمة بإعادة فتح الكنيسة وتكليف فرد أمن بحمايتها. أكد الأقباط وقتها أن المشكلة مع الأمن وليست مع مسلمي العزبة الذين لم يمانعوا في إقامة الصلاة، وأكد الأنبا مكاريوس، أسقف عام المنيا وأبو قرقاص، في حديثه لـ «مدى مصر» وقتها أنه لا مجال من الأساس للخلاف الطائفي في العزبة لعدم تداخل المنازل، على حد تعبيره.
بحسب الباحث في شؤون الأقليات، سليمان شفيق، يظهر الفرز الديموغرافي بشكل أوضح في مدن الصعيد التي تشهد نسبة عالية من الأقباط مثل المنيا وأسيوط، حيث تتواجد قرى بالكامل قبطية مثل نزلة عبيد ودير البرشا وأبو حنس ودير العذراء بجبل الطير بالمنيا والعزيزية بأسيوط.
قد تساهم ظاهرة الانفصال الديموغرافي التي تشهدها بعض توابع القرى في المنيا، التي تضم مليوني قبطي بين ما يقرب من 5.6 مليون يشكلون عدد سكان المحافظة، بحسب تقدير الأنبا مكاريوس، لـ«مدى مصر»، في شعور الأقلية القبطية بالأمان وقدرتها على ممارسة شعائرها الدينية بحرية، إلا أن هذا الانفصال يحافظ على الفجوة التي تزيد من الأفكار المغلوطة والتوجس الذي يكنه كل طرف تجاه الآخر.
أثناء زيارة «مدى مصر» للعزبة كان سرادق عزاء مقام في حارة تربط بين شارع يسكنه مسيحيون وآخر يسكنه مسلمون، توجه إليه المعزون من الجهتين، وأشار إليه الأهالي كتأكيد على كلامهم بأن العلاقات بين الطرفين في أفضل حال.
«كلنا هنا عيلة واحدة نصبح عليهم ويصبحوا علينا، ولا ندق فيهم ولا يدقوا فينا»، قالت إحدى السيدات القبطيات، مفسرة الفصل الديمغرافي بأنه مورث أكثر منه اختيار: «طلعنا لقينا نفسنا كده».
أحد سكان الجانب المسلم قال لـ«مدى مصر» إنه يفضل حالة الفصل القائمة. كان في تفسيره تحامل شديد على جيرانه من الأقباط: «المسيحي يقدر يعيش في وسط المسلمين، لكن المسلم ما يقدرش يعيش وسط المسيحيين، احنا في قلوبنا رحمة، لو حصلت مشكلة نسامح، هم ما يسامحوش».
اتفق معه صديق من عزبة النخل المجاورة، والتي تشهد فصلًا مماثلًا، وأضاف أنه لا يرتاح في المعيشة وسط الأقباط مرددًا بعض الأفكار التمييزية المنتشرة ضد الأقباط في الريف المصري مثل أن لطعامهم رائحة سيئة، مشيرًا إلى أن في هذا الفصل تفادي للمشاكل التي قد تزيد مع المعيشة المختلطة: «يعني لو احنا في نفس الشارع وابنه ضرب ابني، ده أنا أروح أموته. ماينفعش مسيحي يضرب مسلم».
بحسب تقرير للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية في 2016 شهدت المنيا وحدها 77 حادث عنف طائفي منذ 2011. كانت أبرز هذه الحوادث قيام مسلمي قرية الكرم بتعرية سيدة مسنة وسحلها في الشارع في شهر مايو 2016 بعدما انتشرت شائعة عن علاقة عاطفية بين ابنها وبين سيدة مسلمة من سيدات القرية. أثار الحادث الرأي العام، مما استلزم اعتذار رئيس الجمهورية بنفسه، إلا أن الأمر انتهى بحفظ التحقيقات في القضية بدون معاقبة الجناة. واستمرت الحوادث في السنة الأخيرة، ومنها هجوم أهالي على أقباط قرية كوم اللوفي في شهر إبريل الماضي بالحجارة أثناء خروجهم من أداء صلاة خميس العهد.
كانت مطرانية المنيا وأبو قرقاص أصدرت بيانًا، السبت الماضي، أعلنت فيه عن غلق أربع كنائس بالمنيا من قبل الشرطة بعد اعتراض الأهالي عليهم، وهو ما تقول المطرانية إنه لم يحدث منذ سنوات. وجهت المطرانية في بيانها انتقادًا لمسؤولين، واعتبرت ردود أفعالهم على الاعتداءات على الأقباط «مخيبة للآمال»، موضحة: «عادة ما تُستخدم المواءمة والمساومات تحت مسمى (التعايش السلمي). ودائمًا ما يدفع الأقباط ثمن هذا التعايش، وليس المعتدين».
ردت المحافظة على بيان المطرانية اليوم، الإثنين، ببيان تؤكد فيه أن المحافظة جعلت قضية دور العبادة في أعلى قائمة أولوياتها، مصححة أن كنيستين فقط تعرضتا لهجومين، وبأن قوات الأمن قبضت على الجناة بعكس الوارد في البيان. ودعا البيان الأنبا مكاريوس لـ«ضرورة التأكد من المعلومات التي تعرض عليه وبخاصة فيما يتعلق بممارسة الشعائر الدينية في المنازل غير المرخصة، قبل إصدار البيانات التي تتناولها وسائل الإعلام المعادية للدولة المصرية، بشكل يعطي انطباعًا بأن الدولة تعمل ضد الكنيسة وأن الكنيسة تعمل ضد الدولة وذلك على خلاف الحقيقة».
يقول الباحث مينا ثابت إن ظاهرة الانفصال الديمغرافي زادت مع صعود الجماعات الإسلامية التي استهدفت الأقباط في سبعينيات القرن الماضي، وأنها ليست قاصرة على المنيا أو صعيد مصر، بل انتقل الأقباط الهاربون من الاضطهاد بالصعيد إلى أحزمة عشوائية خارج القاهرة وعاشوا في تكتلات قبطية أملاً في الأمان، وهي أماكن لا زالت تشهد كثافة قبطية مثل عزبة النخل والخصوص والمرج وحي الزبالين.
يرى شفيق أيضًا في نشوء الجماعة الإسلامية نقطة البداية للفرز الديني، والذي يقول إنه متواجد بشكل خاص في العزب وتوابع القرى الصغيرة وموجود في جميع أنحاء الجمهورية، إلا أنه ملاحظ في الصعيد بشكل أوسع بسبب نسبة الأقباط المرتفعة.
يقول مجدي ملاك، عضو مجلس الشعب عن دائرة المنيا، إن الظاهرة التي تبدو طائفية الطابع لها بعد قبلي، موضحًا أن الظاهرة بدأت قبل 30 عامًا ببناء العائلات لمنازل قرب بعضهم تماشيًا مع الطبيعة القبلية للصعيد، فيبني أب منزلًا، ثم يدعو أولاد أعمامه لشراء الأراضي المجاورة، ثم يبني لأبنائه منازل حوله وهكذا. يقول ملاك إن بعض هذه النجوع الصغيرة لا تزال مكونة من عائلة أو عائلتين.
كبرت الظاهرة مع التوسع العمراني في تلك النجوع والعزب التي يقول ملاك إنها بدأت بعشرة أو عشرين منزلًا، حتى وصلت الآن إلى 200-300 منزل مع الاحتفاظ بالفصل الديموغرافي المتوارث. ولكنه يوضح أن النجوع التي تشهد هذا التقسيم تمثل حوالي 10% من المنيا.
يقول ملاك إن المشكلة ثقافية أكثر منها طائفية، مشيرًا إلى نسبة أمية تصل إلى 50% في المنيا، وهو ما يرى أنه يجعل أهلها سهل استقطابهم. وضع تحديث لترتيب المحافظات الأكثر فقرًا في مصر، أعده الصندوق الاجتماعي للتنمية عام 2011، المنيا في المرتبة الثامنة بنسبة فقر تقترب من 35%. كما أوضحت خريطة الفقر بمصر لعام 2007، والتي تصدرها الحكومة، أن ثلاثة ملايين من سكان المحافظة يقطنون قرى من ضمن الألف قرية الأكثر فقرًا على مستوى الجمهورية.
يتفق الأنبا مكاريوس مع فكرة انتشار الظاهرة بشكل تلقائي بسبب بناء المعارف لبيوتهم بجوار بعضهم، ويرى أن الوضع كان سيصبح أفضل إذا كانوا مختلطين. بعد إعادة افتتاح كنيسة عزبة الفرن، يقول الأنبا مكاريوس إن التركيز الآن على حصر الكنائس الموجودة في المنيا لتقنين وضعها وفقًا للقانون الجديد، بالإضافة لحصر الأماكن التي لا تتواجد بها كنائس للتقدم بطلبات للبناء، مشيرًا إلى أن العمل جارٍ الآن على توسيع وتجديد كنيسة عزبة الفرن.
لم يشعر حمادة زيدان ، مؤسس مركز مجراية للفنون بالمنيا، بالانقسام بين المسلمين والأقباط لنشأته في مدينة ملوي، وهي إحدى المراكز الكبرى التي يتخذ التوتر الطائفي فيها شكل أقل وضوحًا. إلا أنه يروي كيف شهد على ذلك في قرية البرشا. تنقسم البرشا إلى قسم قبطي وآخر مسلم، المعروفين بـ«قبلي الدكان» و«بحري الدكان»، حيث يعتبر محل هو الخط الفاصل بينهما. تجاور قرية البرشا قريتا دير البرشا والتي يقطنها أقباط، ونزلة البرشا التي يقطنها مسلمون. تدل أسامي القرى على التقسيم الديني لسكانها أحيانًا، فكل ما يبدأ بدير يسكنه أقباط، أما ما يبدأ بنزلة فغالبًا ما تسكنه أغلبية مسلمة.
يقول حمادة إنه أثناء عمله على مشروع توعوي بالبرشا في عام 2012 فوجئ أن أبناء البلد المسلمين من العاملين معه كانوا يضلون الطريق عند دخول الجزء القبطي من البلد.
لا يرى مينا في الدمج الإجباري حلاً، ولكنه يرى بداية الحل في اتخاذ اللازم لضبط خطاب التحريض الذي انتشر على لسان دعاة وقيادات إسلامية معروفة وإعمال مساواة حقيقية وأهم بنودها تمكين الأقباط من بناء الكنائس وتأدية شعائرهم بحرية، مما سيساهم في دحض الأفكار المغلوطة عند الجانبين والقضاء على مشاعر الكره والخوف وجعل الحياة المشتركة ممكنة.
لخص أحد أبناء قرية الفرن المسلمين حالة السلم الهش الذي يعيشه أهل القرية، والذي يفسر انفجار قنبلة العنف الطائفي مع أقل شرارة: «احنا ظاهريًا نود بعض ولو دعتني آجي ونروح لبعض المياتم والأفراح إنما في الآخر المسلم جواه مسلم والمسيحي جواه مسيحي».
عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر
أشترك الآن