جولة في هافانا: هل تحب جيفارا؟

في الطائرة إلى هافانا، اكتشفت الخطأ الفادح الذي ارتكبته.

احتاج الأمر لأن أعيد النظر في التذكرة عدة مرات، حتى أتيقن من كوني حجزت بالفعل رحلة العودة قبل يوم واحد فقط من الذكرى الخمسين لمقتل جيفارا. نجحت في التهوين عن نفسي، بعد خبطة باليد على مقدمة رأسي، كانت قوية بما يكفي لإزعاج الراكب بجانبي، فربما تكون هذه فرصتي لرؤية هافانا متحررًا من رومانتيكية التصورات عنها، ودون جيفارا. كانت الرغبة الأولى ممكنة، لكن الثانية كانت ميئوسًا منها كما اتضح لاحقًا.

الوصول إلى مطار خوسيه مارتي كان حدثًا في حد ذاته بالنسبة لي، فهذا هو المطار نفسه التي قصفته طائرات البي-26 في عام 1961، أثناء عملية غزو خليج الخنازير، التي دبرتها المخابرات الأمريكية السي آي إيه، وفشلت كما غيرها من مئات محاولات الانقلاب والاغتيالات التي تبعتها.

بعد الانتهاء من إجراءات الهجرة، صعدت إلى الطابق الثاني من المطار، للنظر إلى لوحة رخامية صغيرة، تسجّل افتتاح فيدل كاسترو ورئيس الوزراء الكندي السابق، جان كريتيان، لمهبط المطار الثالث في عام 1998. لكن اللوحة متواضعة الأهمية، لا تسجل فقط عرفانًا بالجميل لكندا، التي عاندت حكوماتها على مدى عقود الضغوط الأمريكية لقطع علاقاتها الحميمة بكوبا، لكنها كانت أيضًا تذكيرًا بالعزلة والحصار الذي سعت الولايات المتحدة لفرضه على جارتها الصغيرة بكل السبل الممكنة.

وجه جيفارا الضخم كان مرسومًا على واجهة أحد البلوكات الخرسانية القبيحة، وحين سألت السائق عن طبيعة المبنى، أجابني بأنها وزارة الداخلية

كان لغلالة الملحمية، التي تغلّف تاريخ الصمود الكوبي ضد قصف الطائرات والحصار الأمريكي، تلك أن تنقشع قليلًا بمجرد خروجي من المطار. فبعد مساومات مرهقة مع سائق التاكسي، انتهت لصالحه بالطبع، أثار المرور على ميدان الثورة بعض الإحباط، فنصب جوزيه مارتي، بطل الاستقلال الكوبي، الذي يتوسطه، يبدو قبيحًا بلونه الإسمنتي وطرازه السوفييتي المفتقد للحد الأدنى من الجمال، أما وجه جيفارا الضخم فهو مرسوم على واجهة أحد البلوكات الخرسانية القبيحة، وحين سألت السائق عن طبيعة المبنى، أجابني بأنها وزارة الداخلية، قبل أن يضيف أن عليّ الانتظار حتى أرى الجمال في هافانا القديمة، «والتي بناها أعداء الشعب كما يقولون لنا».

تمثال خوسيه مارتي

كان لكلام السائق أن يثبت بعضًا من صحته، ففي الأيام القليلة اللاحقة، كان التجول في هافانا متعة بصرية خالصة، فبالإضافة لبهاء تصميمات المباني ذات التراث النيوكلاسيكي في وسط المدينة والطراز الكولونيالي للمدينة القديمة، وألوانها الزاهية في هدوء، فإن هيئة سكان المدينة لا تشي بفقر كنت أتوقع رؤية ملامحه؛ يبدو الجميع وقد ارتدوا أبهى حللهم للخروج للشوارع، بشكل لم أره في أي مدينة أخرى زرتها. ولا يعني هذا أن لأهل المدينة ذوقًا رفيعًا في أزيائهم، أو أنها تبدو منمقة لأقصى حد، ومكوية ونظيفة ولا يشع منها سوى البهاء، بل إنها على الموضة، وآخر صيحاتها أيضًا.

لكن الأبهى من كل هذا كان التلاميذ بقمصانهم ناصعة البياض، وقد أمكن التلصص عليهم في مدارس المدينة القديمة، ذات الفصل الواحد، عبر النوافذ الواسعة بعرض الفصل نفسه، والمفتوحة على الأسواق وحركة المارة والتي لا يبدو أن ضجيجها كان قادرًا على تشتيت انتباههم عن مدرسيهم الواقفين، ومن خلفهم صورة أو أكثر لجيفارا في صدر الحجرة.

الأبهى من كل هذا كان التلاميذ بقمصانهم ناصعة البياض، وقد أمكن التلصص عليهم في مدارس المدينة القديمة

كان حضور الشعارات السياسية في المدينة أقل كثيرًا مما تصورت، فغير نصب ميدان الاستقلال، صادفت نصبين أو ثلاثًا على التراث السوفييتي، بينما توارت صور فيدل، وظهرت بشكل نادر جدًا صور لراؤول كاسترو، في مقابل هيمنة أيقونات جيفارا الموزعة في كل ركن دون إفراط. وبين صور جيفارا المفعمة بالفحولة، وصور كاسترو التي تستدعي علامات الشيخوخة الطويلة فيها إحساسًا بالشفقة مع القليل من النفور، تقف المدينة وسكانها بين عالمين منفصلين تمامًا.

غير نصب ميدان الاستقلال، صادفت نصبين أو ثلاثًا على التراث السوفييتي، بينما توارت صور فيدل، وظهرت بشكل نادر جدًا صور لراؤول كاسترو

بينما لا يمكن التظاهر بعدم ملاحظة الطوابير الطويلة أمام منافذ البيع المدعمة، والتي تستغرق ساعات في بعض الأحيان لشراء زجاجة زيت أو كيس بلاستيكي صغير من مسحوق للغسيل، فإن قطاعًا سياحيًا منتعشًا وتغييرات في السياسات الاقتصادية، سمحت بوجود قطاع خاص صغير واستثمارات محدودة لجانب اقتصاد الدولة المركزي، بالإضافة لنظامين ماليين متوازيين، فيهما يجري تداول نوعين للعملة، تعادل قيمة واحدة منهما 25 ضعف الأخرى، ما انتهى لوضع شديد الغرائبية والتشوش، يعادل فيه دخل سائق التاكسي عن توصيلته لي من المطار، فقط، الدخل الشهري لطبيب في مستشفى حكومي، وبحسبة بسيطة فإن دخل صاحبه النزل الذي أقمت فيه، قد يعادل رواتب طاقم المستشفى كله.

لابد وأن جيفارا، الذي كان مسؤولًا عن البنك المركزي ووزارة المالية بين مناصب أخرى كثيرة بعد الثورة، والذي كان اكتفاؤه بالتوقيع بلقب «تشي» فقط، بدلًا من اسمه الكامل، على أوراق العملة، هادفًا لنزع القداسة عن منطق الرأسمالية، كان ليجد نفسه غريبًا عن المدينة، التي يعود الفضل لطابور المقاتلين، الذي كان يقوده، في تحريرها من قبضة قوات باتيستا، قبل أن يلحق به كاسترو إلى المدينة بعدها بستة أيام كاملة.

لابد وأن جيفارا، الذي كان مسؤولًا عن البنك المركزي ووزارة المالية، كان ليجد نفسه غريبًا عن المدينة

لكن ربما لم يكن جيفارا ليبقى مرحبًا به في المدينة أيضًا، فسائق التاكسي أكّد لي بيقين كامل، أن كاسترو هو من وراء الوشاية بجيفارا، وتسليمه للبوليفيين، بغية الخلاص منه، لأن «جيفارا ميتًا أفضل مئة مرة من جيفارا حي،  كما ترى»، وبائعة الهدايا التذكارية عرضت عليّ بضائعها التي تحمل صورته، وهي تسألني إن كنت أحبه، وردًا على إجابتي بالنفي، هزّت كتفها قبل أن تهمس، وهي تناولني قطعة أخرى لا تحمل صورته: «أنا أيضًا لا أحبه».

على قدر ما كان السائق وبائعة الهدايا يحاولان إسماع الجرينجو (صيغة لاتينية تحقيرية لوصف السياح القادمين من أوروبا وأمريكا الشمالية)، من أمثالي، ما يثيرهم ويحبون سماعه، فإن ما قالاه كان يحمل جزءًا من الحقيقة، أو على الأقل أشباحًا لها.

كان التجول في هافانا متعة بصرية خالصة

في الليلة قبل الأخيرة في هافانا، قررت قطع كورنيشها الممتد لثمانية كيلومترات مشيًا على الأقدام، ولم أنجح في هذا، لحسن الحظ أو لسوئه. ففيما كانت أحاول تحاشي عاملات الجنس الموزعات على طول الكورنيش، واللاتي لم يكتفين بإرسال القبلات في الهواء والبسبسة لـ«الجرينجوز»، بل يلحقن بهم بخطوات سريعة عارضين خدماتهن، استوقفتني إحداهن، بحيلة بسيطة، فبدلًا من السؤال الافتتاحي المعتاد في المدينة «من أين أنت؟»، والذي كنت تعلمت التهرب من أصحابه وعروضهم التي تأتي بعده، بإجابتي: «من القمر»، فقد سألتني فيرونيكا: «ما اسمك؟» وكنت غير مجهز للإفلات من هذا السؤال.

الأكيد أن جيفارا الذي كنت راغبًا في حضور ذكراه الخمسين، لا يزال حاضرًا في كل ركن في المدينة وذاكرة أصحابها

بعد أن أشعلنا سيجارتين، وبعد أن اعتذرت لها عن عدم رغبتي في تضييع وقتها، لأنني لست زبونًا محتملًا، تبادلنا حوارًا لطيفًا عن زيارتي، عرفت منه أنني سأغادر بعد يومين، فقالت بغنج: «لم العجلة؟ ستندم، كوبا جميلة، وناسها أجمل». لكن إجابتي بأنني نادم بالفعل، وأن الأمر كله خطأ، وأنني كنت راغبًا في حضور ذكرى جيفارا في اليوم التالي لمغادرتي، كانت آخر ما سمعته مني، قبل أن تمشي بعيدًا وهي تسألني بنبرة هي مزيج من السخرية وبعض الغضب: «هل تحب جيفارا؟ هل سمعت عن قلعة لاكابانا؟ الكثيرون ماتوا هناك».

في طائرة العودة لم يكن هناك إلا القليل مما يمكنني الجزم به عن هافانا، فزيارة سياحية لأسبوع واحد على نمط «الجرينجوز» الذين يستقون انطباعاتهم من سائقي التاكسي وبائعي محلات التذكارات السياحية، لا تكفي حتى لخدش سطح المدينة.

لكن الأكيد أن جيفارا الذي كنت راغبًا في حضور ذكراه الخمسين، لا يزال حاضرًا في كل ركن في المدينة وذاكرة أصحابها، فمثلما أن مشروع التعليم ومحو الأمية الطموح والجذري الذي كان «تشي» مسؤولًا عن تخطيطه والبدء في تنفيذه، لا يزال حيًا في وجوه تلاميذ المدارس، فإن ذكرى من قُتلوا في سجن لاكابانا، والذي كان هو نفسه أيضًا مسؤولًا عن إدارته لبعض الوقت، باقية بندوبها، في المدينة التي تبدو على مفترق طرق، تودع فيه ماضيًا يعتز به أهلها عن حق، لكن في الوقت ذاته يبدو الكثيرون منهم راغبين في مستقبل مختلف.

اعلان
 
 
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن