«غرباء تمامًا».. الجانب المظلم للقمر

معروف أن القمر يواجه الأرض طوال دورانه حولها بجانب واحد فقط،  في حين أن له جانبًا آخر؛  خفيًا و مجهولًا ومظلمًا لا يمكن رؤيته بالعين المجردة أو التلسكوبات الأرضية. ومثلما هناك نظريات وتكهنات حول تأثير القمر على تقلب المزاج البشري بسبب تأثيره على الكتلة المائية الأرضية بعملية المد والجذر، فأكيد أيضًا أنه يتشارك مع البشر في امتلاك جوانب خفية وسرية لا تظهر لأحد.

وفي ليلة ذات طابع خاص، تشهد فيها الأرض خسوفًا كليًا للقمر، تدور أحداث الفيلم الإيطالي «غرباء تمامًا» Perfect Strangers (بالإيطالية: Perfetti Sconosciuti) في إطار زمني مضغوط من ساعتين، هما بالضبط الوقت الذي سيستغرفه القمر للمرور بكل مراحل الخسوف ليصل للإظلام الكلي، وهما أيضًا الزمن الذي سيتناول فيه مجموعة مقربة من الأصدقاء عشاءهم على مائدة عامرة بالأصناف الشهية في منزل صديقهم دكتور الجراحة التجميلية «روكو» وزوجته الطبيبة النفسية «إيفا».

ويبدو العشاء كمناسبة ينتهزها الأصدقاء، الذين تدور أعمارهم بين منتصف الثلاثينات وأواخرها؛ للهروب من مشاكلهم اليومية مؤقتًا، والاستمتاع بوقت حميم مع الصحبة، يأكلون ويشربون ويدخنون ويضحكون في سخرية غير عابئة بشيء، قبل أن يعودوا لمشاكلهم الاعتيادية التي توجد في أي بيت. روكو وإيفاً مثلاً يواجهان صعوبة في تربية ابنتهما المراهقة «إكس»، بينما تضطر كارلوتا لتحمل وجود حماتها بسنها الكبير ومزاجها العصبي في بيتها، جبرًا لخاطر زوجها «لي لي». هناك أيضاً جدال سائق التاكسي «كوسيمو» مع زوجته «بيانكا» بخصوص الإنجاب، ومشاكل مدرب اللياقة البدنية «بيب» مع المَدرسَة التي قررت الاستغناء عنه مؤخرًا بسبب زيادة وزنه.

يبدأ العشاء بملاحظة جماعية حول صديق غائب، اكتشفت زوجته خيانته لها مع فتاة من عمر ابنتهما. ويمضي النقاش حول كيف كانت تلك مفاجأة للجميع، فرغم الصلة القريبة التي تجمعهم به منذ الطفولة، إلا أن له أسرارًا لم يعرفوا عنها شيء.  

تقترح إيفا على المجموعة بإصرار كبير؛ القيام بلعبة جريئة، تبدو ظاهريًا مناسبة لصداقتهم المتينة ومثيرة لعقلياتهم المنفتحة. وهي أن يقوموا بوضع هواتفهم المحمولة في منتصف مائدة الطعام، ويتم قراءة أي رسالة أو تنبيه من أي تطبيق على الجميع بصوتٍ عال، وكذلك الرد على المكالمات أيًا كان مصدرها أو درجة خصوصيتها عبر السماعة الخارجية.

في البداية، يعتقد الأصدقاء أن إيفا تمزح، ويحاول روك إثناءها محاججًا بأن ليس كل الناس على قدر من الصلابة ليسمحوا بكشف أنفسهم أمام الجميع، وأن الأمر الذي سيبدأ بلعبة قد  يتحول لخطر يكسّر ويدمّر، بينما يعلق بيب أنه سمع ذات مرة أن القاتل المتسلسل يسعى جاهدًا لكي يتم اكتشافه.

بدون ممانعة حقيقية، يندمج الجميع في اللعبة، كأنهم مدفوعين برغبة حقيقية في كشف أسرارهم مثل القاتل المتسلسل، أو كأن لديهم عبئًا كبيرًا يرغبون في التخلص منه و البوح بمكنونه مهما كانت العواقب.

يُظلِم القمر رويدًا رويدًا ..

تُفتتح اللعبة بمكالمة هاتفية قادمة لمضيفتهم إيفا، يكتشف من خلالها الأصدقاء أن الطبيبة النفسية التي تساعد الآخرين على تقبل ذواتهم لديها مشكلة في تقبل ذاتها، حيثُ ستقوم بإجراء عملية تجميل جراحية لتكبير ثديهها. أيضًا يكتشفون أن كارلوتا تحاول إيداع والدة زوجها في دار رعاية للمسنين، وسط ذهول الزوج الذي لم يكن يعلم عن الأمر شيئًا.

وهكذا يمضي  العشاء عبر عاصفة من السخرية والضحك والآراء المؤيدة والمعترضة، نحو الطبق الرئيسي الأول، بأجواء يسودها ما يبدو «دعمًا» من الجميع لحرية الاختيارات الشخصية، دون أن يعلموا أن تلك البداية مجرد تسخين، وأن الأسوأ لم يأتِ بعد.

يُظلِم القمر رويدًا رويدًا ..

أثناء الطبق الرئيسي الأول، يستقبل روكو مكالمة من ابنته، التي لا تزال عذراء، تستشيره فيها حول صديقها الذي يرغب في ممارسة الجنس معها.  يفهم الجميع من تتابع الحوار، أن الابنة تلجأ للأب، لأنها لا تطيق أمها ايفا ولا عصبيتها، وأن الأب يخفي عليها ذهاب ابنتهما للقاء صديقها، بينما يتعامل هو مع الموضوع بأريحية تدفعه للتأكد منها عن توفر «الحماية» المناسبة في حقيبتها. نعلم أيضًا أن هناك سر آخر يخفيه روكو عن زوجته، هو لجوئه لمعالجة نفسية.

ومع أن الصدمة الوقتية تبدو على الأصدقاء مع انكشاف أسرار كل منهم، إلا أنهم يبدون نوعًا من التقبل للجوانب التي تمس «الفرد» نفسه، طالما لم تمس علاقتهم به بشكل مباشر، إلى أن تحدث الأزمة الكبيرة التي تكاد تعصف بالعشاء كله عندما يعلمون بميول أحدهم الجنسية ناحية الرجال، فضحته رسائل ومكالمة من صديقه «الرجل» الذي يشتاق لأحضانه وقبلاته.

يتلقى الجميع المعلومة بالصمت، ثم يتعرضون له ببعض الهجوم، قبل أن يحاولوا هضم المسألة بكثير من السخرية القاسية، مستخدمين كلمة ثقيلة بالإيطالية لنعت المثلي جنسيًا تحوي إدانة ضمنية. المفاجأة أننا نعلم كمشاهدين أن الصديق المتهم لم يكن كذلك في حقيقة الأمر، بل كان يغطي على صديق آخر، بدّل هاتفه معه، مغامرًا بتهديد زواجه. والغريب كان استمتاعه بمحاكمة الآخرين له، وفكرة أنهم يعاملونه بهذه القسوة، فقط من أجل رسالة أو مكالمة من شخص غريب، فيبدو كأنه هو الذي يحاكمهم.

يُظلِم القمر أكثر، ويكاد يختفي..

وبعد طبقين رئيسيين آخرين؛ يفتح الجحيم أبوابه على مصراعيها، عندما يكتشف الأصدقاء أن أحدهم يخون زوجته وأن صديقته قد تكون حامل منه في اللحظة الحالية. أيضاً يكتشفون قيام صديقة أخرى بمغامرة مع شخص مجهول بالنسبة لهم على فيسبوك، تتضمن محادثات بها قدر من الفانتازيا الجنسية، تلجأ إليها كوسيلة للتعويض عن الحرمان العاطفي.

وإلى أن نصل لطبق الحلوى، يكون القمر قد اختفى تمامًا، ويكون جانبه المظلم قد واجه العالم بشكل كامل، بالضبط مثلما تجلّت أسرار الأصدقاء وجوانبهم الخفية بالكامل.

عند هذه النقطة، يكون سؤالنا، ماذا كان عليهم أن يفعلوا؟

هل كان عليهم أن يبقوا هواتفهم صامتة، ويخفضوا رؤوسهم لأسفل المنضدة ليختلسوا النظر إلى الرسائل والتنبيهات من حين لآخر، متحفظين على صناديقهم السوداء في مأمن ويصرفوا النظر عن اللعبة برمتها؟

أم كان عليهم الاستمرار في لعبة «الأوجه المزدوجة»؟ يلعنوِن مَدرسة بيب التي فصلته من أجل بضعة كيلوجرامات زادها، بينما يتفقون فيما بينهم، في نفس الوقت، على الذهاب للعب كرة القدم بدونه. هل يكملوا اللعبة ليخرجوا أسوأ ما فيهم، وليذهب الجميع إلى الجحيم، بدون الاحتياط لأي تبعات قاسية قد يتحملها أطراف آخرين كالأبناء مثلًا؟

هل الانكشاف التام تفتٌّح وجرأة والاحتفاظ بالأسرار أنانية وجبن؟

ينتهي الفيلم والقمر في السماء مرة أخرى بجانبه المضيء، بينما يهبط الأصدقاء من العشاء إلى سياراتهم وكأن شيئاً لم يكن. يحتضنون بعضهم ويستكملون حياتهم ويكتبون رسائل نصية لعشيقاتهم/ عشاقهم، وكأن خسوفاً لم يحدث، أو اهتزازاً في درجة شفافيتهم وإحساسهم بالأمان لم يكن. يعرض الفيلم للمشاهد كلا السيناريوهين؛ السيناريو الآمن وتتابعه المتوقع، والسيناريو الأكثر خطرًا وعواقبه.

فيلم Perfect Strangers للمخرج الإيطالي «باولو جينوفيس»، محاولة لطرح الأسئلة، وفرصة لمراجعة الذات. لأي مدى تحبسنا أسرارنا دون أن ندري؟  ولأي مدى تركنا لها أنفسنا لتسجننا طواعية؟

اعلان
 
 
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن