بعد 4 سنوات من 30 يونيو: عن الحداثة فى ثورة يناير كرصيد متجدد

كتب: عبد العظيم حماد

بسبب الغرق في تفاصيل الصراع اليومي بين قوى التقدم وقوى الثورة المضادة، ربما لا يلتفت كثيرون إلى وجه مهم جدًا للاختلاف بين ثورة يناير عام 2011، ومحاولة تصحيحها يوم 30 يونيو عام 2013، من منظور التحرك الجماهيري العفوي في الحدثين، وبين الثورات السابقة في تاريخ مصر الحديث ، وهذا الاختلاف هو ما يرجح أن كل الانتكاسات الحادة التي منيت بها الثورة ليست إلا عثرات عارضة، مهما تبلغ قسوتها، وأن الفكرة الجديدة التي جاءت مع يناير 2011 سوف تنتصر، وإن طال الصراع، لأنها -ببساطة- فكرة جاءت في أوانها.

وجه الاختلاف الذي نقصده هو أن ثورة يناير هى أول ثورة حداثية بالكامل فى تاريخ مصر، بمعنى أنها ثورة اجتماعية، وحقوقية، وديمقراطية في آن واحد، في حين كانت الثورات المصرية الكبرى الثلاث السابقة ثورات وطنية ممتزجة بطابع ديني بالدرجة الأولى، ومختلطة أحيانًا بدوافع ومطالب ديمقراطية، واجتماعية في أحيان أخرى.

مثلا كانت مقاومة النفوذ الأجنبي المهيمن هى الدافع الرئيسى للثورة العرابية، ولم يكن قبول الخديوي إسماعيل -مضطرًا- تعيين وزير إنجليزى للمالية، وآخر فرنسي للأشغال، إلا قمة جبل الجليد لهذا النفوذ الأجنبي الذي تغلغل فى كل مناحى الحياة المصرية، وامتدت آثاره المدمرة إلى كل مواطن على أرض مصر تقريبًا، بضرائب الخديوى المتوالية لسداد الديون الخارجية، وباستغلال بيوت التسليف الأجنبية للمزارع والتاجر المصرى بالربا الفاحش، و بمظالم المحاكم القنصلية، والامتيازات الأجنبية، ثم القضاء المختلط لعموم المواطنين.

كانت مقاومة هذا النفوذ والاستغلال الأجنبيين هى ما وحد بين الجناحين العسكرى والمدنى فى الثورة العرابية، بمعنى أن كون المستغل أجنبيًا هو الذى حرك الثورة، بل إن المطالب «الديمقراطية» للعرابيين كانت إحدى وسائل مقاومة الهيمنة الاستعمارية على الخديوى وحكومته.

وأما ثورة 1919 فقد كانت وطنية أولًا وأخيرًا، ليس فقط من حيث أن مطلبها الأول كان هو إنهاء الاحتلال البريطانى، ولكن أيضًا من حيث تأسيسها لمبدأ الوطنية المصرية المستقلة عن أية سيادة أجنبية على مصر، وكذلك لتأسيسها لمبدأ المواطنة المتساوية بين كل المصريين، أو ما عرف وقتها باسم وحدة الهلال مع الصليب، وهو ما نسميه اليوم باسم الوحدة الوطنية.

بالطبع تضمنت ثورة 1919 مطالب وانجازات ديمقراطية، بإقرار دستور 1923، وقيام أول حكومة منتخبة فى تاريخ مصر القديم والوسيط والحديث، ولكن هذه الإنجازات -برغم أهميتها- كانت تالية أو تابعة للفكرة الوطنية، إذ لم يكن مقبولًا أن تبقى السلطة فى أيدي من لا يؤمنون بالاستقلال التام، بعد ثورة شعبية عارمة، ظلت موجاتها تتوالى لمدة خمس سنوات.

ولم يكن لحركة الضباط الأحرار عام 1952، بدورها، محرك أقوى من إجلاء المستعمر، ولذلك جاء مطلب القضاء على الاستعمار وأعوانه فى مقدمة ما يسمى بالمبادئ الستة لحركة الضباط، التى عرفت بعد ذلك باسم ثورة 23 يوليو، بل إنه يمكن اعتبار بقية المبادئ المعلنة لحركة الضباط الأحرار وسائل لتحقيق هذا المبدأ الأول، كالقضاء على الإقطاع وسيطرة رأس المال على الحكم، فالإقطاعيون والرأسماليون المسيطرون على الحكم هم «أعوان الاستعمار»، وإقامة الجيش القوى تعني تحقيق الاستقلال الوطنى والحفاظ عليه، وكذلك الديمقراطية السليمة والقضاء على الفساد التي تعني عدم وصول «أعوان الاستعمار» إلى السلطة مرة أخرى، وربما يبقى مبدأ إقامة العدالة الاجتماعية هو ما استجد فى أدبيات حركة الضباط، مضافًا إلى القضية الوطنية، قياسًا على الثورة العرابية، وثورة 1919.

لا يحسبن أحد أن المقصود من العرض السابق هو انتقاد تركز الثورات الثلاثة التي سبقت ثورة يناير على العامل الوطني، بل إن العكس هو الصحيح، فالاستقلال كان هو فعلًا المطلب الملح للجماعة السياسية المصرية فى المناسبات الثلاثة. ولكن المقصود هنا هو إبراز وجه الاختلاف أو التميز فى ثورة يناير، وهو ما حددناه فى السطور السابقة بأنها  أول ثورة اجتماعية حقوقية ديمقراطية خالصة في التاريخ المصري، وهى بهذا المعنى أول ثورة حداثية كاملة فى التاريخ السياسى للمصريين.

فهى لم تكن ثورة ضد سلطة أجنبية تستنفر دافع الوطنية الذي لا يحتاج إلى درجة عالية من الوعي الفردي والجماعي للاستجابة له، وهي أيضًا لم تكن ثورة مدفوعة بعوامل دينية لا تحتاج بدورها إلى درجة عليا من الوعى الفردى والجماعى للانقياد لها، ولكنها كانت ثورة ضد سلطة وطنية، لكنها فاسدة، وفاشلة، وقمعية، ورجعية، وهذا ما لخصه الشعار الأصلى للثورة «عيش – حرية – كرامة».

إن التفاف المصريين حول هذا الشعار منذ يوم 25 يناير إلى يومنا هذا، وحتى يتحقق عمليا على أرض الواقع كأساس للحكم، وكمعيار لقياس الشرعية السياسية، هو قصة نجاح للحداثة، فهذا الالتفاف يثبت ارتقاء الوعي السياسي لعموم المصريين، بحيث أنهم أصبحوا يفهمون الوطنية على نحو يتجاوز مجرد التحرر من التبعية الأجنبية، إلى تحرير المواطن نفسه من الفقر، والقمع وانتهاك حقوقه وكرامته، ومن التمييز ضده على أساس الدين، أو الجنس، أو اللون، أو الطبقة. وإلى تحرير السلطة السياسية من الاحتكار الفئوي، ومن نزعة الهيمنة والوصاية على الفرد والمجتمع، تارة من أصحاب الأكتاف المرصعة بالرتب العسكرية، وتارة أخرى من أصحاب العمائم واللحى كنواب لله على الأرض، يملكون مفاتيح الخلاص فى الدنيا والآخرة، مسلمين كانوا أم مسيحيين.

بالطبع قدمت تجربة يناير، والحراك الذي تلاها حتى 30 يونيو 2013، أفكارًا و ممارسات قاطعة الدلالة على ميلاد هذه الحداثة، ونموها فى الوعى السياسى لغالبية المواطنين، وبالطبع أيضًا هناك أسباب لذلك الميلاد فى تلك اللحظة، وهذا النمو ، وقد كانت الشرارة الأولى «للثورة» حداثية بكل معنى الكلمة، إذ أنها كانت تحركا واعيا ومنظما للاحتجاج على طغيان جهاز الشرطة ، و استعلائه على المواطنين وعلى القانون ، متخذا من حادثة مقتل الشاب خالد سعيد رمزا لكل ذلك.

ومن أفكار وممارسات الحداثة -كما تجلت فى يناير وما بعده- سقوط كافة الأساطير السياسية المنسوبة للوطنية و للعقائد الدينية، وهى الأساطير الموروثة من عهود الوصاية، وكان هذا السقوط فى مصلحة فكرة المجتمع أو الشعب، أو المواطن الإنسان، فقد سقطت فكرة الحاكم الأب حين دوى الرصاص ليقتل المتظاهرين ضد هذا الأب المزعوم، وحين توحد هتاف هؤلاء «الأبناء» مطالبا بسقوط النظام ، كما سقطت أسطورة أن الشعب المصرى لم يتأهل بعد «لحكم ديمقراطى» ، بدليل أن تصريحين بذلك المعنى لكل من عمر سليمان رئيس جهاز المخابرات العامة والرجل القوي فى نظام مبارك، وأحمد نظيف رئيس الحكومة، لم يفعلا سوى أن ضخا وقودًا جديدًا فى الروح الثورية للشباب.

وتشهد المناقشات التى جرت بين شباب الميادين، وعلى الشاشات، وفى المقاهى والنوادى والمنازل حول أقوال سليمان ونظيف على وضوح هذا الوعي الحداثي، وكان السؤال المطروح هو ما الذي يميز الشعب الهندي مثلًا على الشعب المصرى، حتى تصلح الديمقراطية للهنود، ولا تصلح للمصريين، ولماذا تحقق التحول الديمقراطى فى كوريا الجنوبية، ولم يتحقق مثيله فى كوريا الشمالية، رغم أن الشعب واحد فى الحالتين، إن لم يكن الخطأ مسؤولية نظام الحكم فى الشطر الشمالى من كوريا؟!

ومن الأساطير التى سقطت كذلك أسطورة أن حكامنا الوطنيين يحموننا من مؤامرات خارجية تحاك ضدنا ليل نهار، حين أثبتت تطورات ثورة يناير وما بعدها أن جميع القوى السياسية التقليدية فى البلاد كانت تنسق مع العواصم الكبرى، خاصة واشنطن، وتحدد خطواتها وفقًا لكتالوج مكتوب فى هذا الخارج «المتآمر».

وسقطت أيضا المقولات الشعبوية الساذجة المستمدة من التفسير الرجعى لمقولة «كيفما تكونوا يولى عليكم»، لتحريم الخروج عن الحاكم، لتحميل المحكومين المغلوبين على أمرهم مسئولية فشل وفساد الحكام، ولتسويغ استمرار الخضوع لهم.

غير أن أهم ما سقط لتحل محله أفكار حداثية هو بعض المسلمات الضارة فى التاريخ المصرى الحديث، إذ بدأت عملية لا تزال وستبقى مستمرة لمراجعة هذه المسلمات، بدءا من لحظة تأسيس الدولة الحديثة فى مصر على يد محمد على. فأخضعت جدلية العلاقة بين الجيش والمجتمع للبحث، لإثبات زيف مقولة إن مصر الحديثة أسسها الجيش، وأنه الأقدر والأحق بحكمها، إذ ظلت مصر تحكم مدنيًا طوال القرن الممتد من وفاة محمد على وابنه إبراهيم باشا حتى استيلاء ضباط يوليو على السلطة، بغض النظر عن درجة النجاح أو الفشل بين فترة وأخرى، وبغض النظر عن أوتوقراطية السلطة المدنية قبل ثورة 1919 ، وتجربة التحول الديمقراطى فى أعقاب هذه الثورة.

ومن المؤكد أن أحدًا من المراقبين لا يستطيع إنكار أن الاتجاه الغالب الآن فى وعى الأجيال الشابة هو الحكم بالسلب على تجربة نظام يوليو 1952، على ما فى هذا النظام من تفاوت بين عهوده المختلفة، والحكم بالإيجاب على التجربة الليبرالية السابقة عليه، وذلك من زاوية الديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان، التى هى جوهر الحداثة السياسية، مضافًا إليها بطبيعة الحال مبدأ العدالة الاجتماعية.

وكانت الحركة الجماهيرية فى 30 يونيو 2013 ضد حكم جماعة الإخوان (فى الجانب العفوي منها) بدورها استمرارًا للالتزام بهذه الحداثة، ودفاعًا عنها ضد مبدأ وتطبيقات الحكم الدينى، المضاد -بطبيعته وبما بدا من ممارساته- لأسس تلك الحداثة.

وقد استمر الوعى الحداثى يرفض ويقاوم نزعات الوصاية المتجددة تحت اللافتة الوطنية، كما ظهر من رفض قانون التظاهر، ورفض محاكمة المدنيين عسكريًا، وعدم الاقتناع بالمبررات المطروحة لانتهاكات حقوق الإنسان، بالدرجة نفسها من قوة الرفض لإرهاب الجماعات الدينية.

وأما عن الأسباب التى أتاحت للحظة يناير 2011 أن تكون لحظة ميلاد الحداثة السياسية كوعى جماهيرى، فيمكن إجمالها فى الفشل المتراكم لنظام الحكم فى السياسة والاقتصاد والثقافة والتعليم، وفى المكانة الإقليمية، وحرص هذا النظام فى الوقت نفسه على احتكار السلطة، وتوريثها، اعتمادًا على القمع وحده، وتفجر الصراع بين مكونات رئيسية فى نخبة السلطة، كل ذلك فى عصر ثورة الاتصال الجماهيرى بكافة تطبيقاتها، التى ساهمت بدورها فى إسقاط الأساطير، وفى ترسيخ الوعى بذلك الفشل من خلال المقارنة بالنماذج الناجحة فى أنحاء العالم، خاصة عند الأجيال الشابة التى تكوّن إدراكها، وتفتح وعيها فى هذا العالم الجديد.

فى الذكرى الرابعة للحراك الجماهيرى فى يوم 30 يونيو 2013، والذى وصفنا نتائجه سابقًا بأنها أقل كثيرًا من ثورة، وأكثر قليلًا من انقلاب، لا مفر من التساؤل عن مستقبل تلك الحداثة السياسية التى ميزت ثورة يناير، وتطوراتها فى مصر، فى ضوء ما يبدو على السطح الآن من انتصار الثورة المضادة بكل مشتملاتها القديمة من الصراع بين «وطنية» الأكتاف المرصعة، ورجعية العمائم واللحى.

والإجابة هى المقولة الخالدة لشاعر وكاتب فرنسا الكبير فيكتور هوجو تعليقًا على محاولة نابليون الثالث إحياء الديكتاتورية، هذه المقولة هى: «إن كل جيوش العالم لن تستطيع أن تهزم فكرة جاء زمانها»، ونضيف إلي مقولة هوجو على سبيل التعميق فقط لا غير، أن لسان حال الغالبية الساحقة من المصريين يقول الآن: ليس الوضع الحالى هو ما توقعناه، لا فى يناير ولا فى يونيو. وهذا هو كنز يناير ويونيو الذي لا يفنى، أو رصيد الحداثة المتجدد.

نقطة أخيرة أود التركيز عليها، ولذا جعلتها هى خاتمة هذه السطور، وهى أن الحداثة السياسية التى نستبشر بميلادها فى وعينا كمصريين، ينقصها عنصر حاسم الأهمية وهو التنظيم، فإن كانت الرجعية تستهدف منظمات المجتمع المدنى، فأمامنا الأحزاب، حتى وإن استهدفتها الرجعية أيضًا: لأن هذه هى طبيعة الصراع السياسى فى كل زمان ومكان، ولأن الصمود و المثابرة يعدان انتصارا فى بعض مراحل التاريخ، تمهيدًا لما سيأتي.

اعلان
 
 
عبد العظيم حماد 
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن