جولة في فلسطين: يوميات نسوية «متقنفذة»

يمكنكم الاستماع للمقال هنا:

للاستماع إلى المزيد من المقالات، يمكنكم الاشتراك في خدمة «صفحات صوت» إما من خلال الموقع أو تطبيق آبل بودكاست.

الإثنين، 13 مايو 2013

أثناء تدريسي لحلقة دراسية عن السينما الفلسطينية في جامعة واشنطن، أصابتني حالة فظيعة من النوستالجيا. إذ تبدو فلسطين التاريخية جميلة للغاية على الشاشة الكبيرة، رغم اللقطات المكبرة المتكررة لواقع سلب الأرض والاحتلال القبيح. أُخفي حنيني للأرض خلف قناع من التدريبات التعليمية. أحدد مسار مقالات طلابي النقدية حول التشظيات البصرية، والانقطاعات السردية، واستحالة أفلام رحلة الطريق الطويلة. أطلب منهم كتابة نصوص تحليلية وأوراق نقدية قصيرة عن التمثيل السينمائي للمكان والطبيعة. أطالبهم باتباع قواعد الاقتباس القياسية. أشجعهم على تجنب تكرار المجازات عن الظلال والتلال والأطلال، إلا إذا كانوا يطمحون إلى انتحال أعمال الشعراء الفلسطينيين. في النهاية، أمنحهم درجات إضافية لقدرتهم على اكتشاف المشاهد الجميلة من فلسطين.

الخميس، 19 يونيو 2014

بدراسة أدب السكان الأصليين في الأمريكتين، أصبحت أكثر وعيًا بقداسة رواية الحكايات والقصص الشعبية، وعلاقتها الروحية بالأرض وبذاكرة الأجداد والتاريخ المعرفي للسكان الأصليين المحليين. الليلة، وبينما جلس كبار عائلتي في حلقة، أخذوا يتشاركون حكايات من الماضي. لم يكن الأمر يتضمن أي احتفال خاص، فقط ملل بدايات الصيف، واليأس السياسي اليومي، وعدم اكتراث تام بكأس العالم. الليلة، عرفت حقيقتين تاريخيتين. الأولى: أن أحد فروع عائلتي الممتدة يعملون رعاة للغنم. وأنهم يصنعون جبنًا منزليًا من لبن الماعز ويبيعونه لكسب رزقهم. أتساءل محتجة: «كيف لا نحصل على تخفيض عائلي خاص عندما نشتري جبنهم؟»

«لأننا كنا نبادل جبن الماعز الأبيض بالجبن الأصفر المُصنّع من إنتاج شركة (تنوفا).» تفسر لي واحدة من كبار عائلتي بنبرة مؤنبة. يضحك كل من في الحلقة. ينضم أحد الكبار إلى الحلقة مقدما الحقيقة الثانية. وهي أن أحد أجدادي قُتل في أربعينيات القرن الماضي بعد معركة مع رجل من عائلة فلسطينية نازحة انتقلت في وقت لاحق إلى قريتنا. كان جدي ذاك فلاحًا، مثله مثل الرجل الذي هشَّم رأسه بشومة ثقيلة. لا يبدو أن أحدًا يذكر موضوع المعركة، لكنهم يذكرون جميعًا أنها جرت بالقرب من البحر. مثله مثل الرجل النازح الذي قتله، كان جدي يمتلك بضعة فدادين بالقرب من ساحل البحر المتوسط. صادر الصهاينة الفدادين القليلة من الأرض التي كانت في حوزة القاتل والقتيل عام 1948.

«كيف تأتَّى للعائلة ألا تثأر أبدا لمقتل الجد، أو الأرض المسروقة؟»

يرد واحد من الكبار: «نحن قوم مسالمون. لم نُرِد أي مشاكل مع العائلة الأخرى.»

«والأرض؟» أتساءل.

«الدم المراق على الفدادين القليلة التي سُرقت لطَّخ مرأى البحر. مَن يريد أن يعيش على أرض دامية بمرأى بحر مُلطَّخ؟» يختم العجوز حديثه. حتى يومنا هذا، لا يزال هناك جدال بين كل من كان في الحلقة مع العجوز، حول الاختلاف بين المسالمين والخاسرين.

الخميس، 26 يونيو 2014

11 صباحًا. تل أبيب. سوق نحلات بنيامين. أنتظر صديقة تحضر اجتماعًا مع منظمة مساعدات دولية. أجد دكة نصف ظليلة أستريح عليها من جولة قصيرة في شارع اللنبي. في مدينة تجتاحها رطوبة ثقيلة لكونها تبذل الكثير من الجهد والعرق كي تصبح مثل نيويورك، يمكن للمشي أن يجعل السائر متعبًا بسهولة. مع اقتراب الظهيرة، تبدو الأشياء أنصاف أشياء. أصحاب محلات اليهود الشرقيين  «المزراحيين» للأنسجة ينتظرون الزبائن خارج محلاتهم وهم يتبادلون النكات بين بعضهم البعض، نصفها بالعربية، ونصفها بالعبرية. سائحان أشقران حائران يتقاسمان نصفين متقابلين من خريطة واحدة. مجموعة من طلبة الكلية الأمريكان تتبادل أنصاف جمل بالعبرية والإنجليزية، تمامًا مثل قائد جولة منظمة «حق الميلاد»، التي يقومون بها والذي يحذف عن عمد قسمًا من وصفه لتاريخ الشارع الذي يمشون فيه. تلتهم الشمس نصف الظل الآخر. أهرب من غضبتها في جولة بلا هدف. أمر على مكتبة لبيع الكتب أُطلق عليها اسم «روبنسون كروزو». «لابد أن لديهم مغامرات وقصصًا استعمارية جيدة بالداخل.» أردد في ذهني وأنا أدخل. أبدو صغيرة وسط الأكوام الطويلة من الكتب المستعملة والجديدة. توجد مجموعة مثيرة للإعجاب من صور الملصقات والتحف العتيقة. في الممر التالي، أسمع رجلين يناقشان موضوعًا هامًا في الأدب العبري. لا أعير انتباهًا للتفاصيل. أميز فقط اسم الشاعر الذي يتناقشان حوله. «إنه كاتب سيء وصهيوني ليبرالي.» أقطع حديثهما في صمت قادمة من الناحية الأخرى للممر، وأستمر في التقدم نحو الرف الوحيد للأدب الفلسطيني المترجم. أكرر اسم المؤلف الفلسطيني ثلاث مرات لبائع الكتب. لا يستطيع تحديد مكان الكتاب.

أسير مسرنمة، غير آبهة لقبح الاحتلال المعتاد. أسير مستمتعة، غير مبالية بمناشدات صديقتي كي أتوقف عن التقاط الصور، لأننا «لسنا سياحًا أجانب وهناك نقطة تفتيش لابد أن نعبرها!»

أذكر العنوان، فيقفز في إثارة، كما لو أنه اكتشف كنزًا جديدًا على الجزيرة: «بالطبع، لديَّ هذا الكتاب! لكن من كتبه هو مؤلف إسرائيلي.» يُريني الغلاف. الكتاب تأليف مشترك. المؤلف الأول فلسطيني، لكن بائع الكتب لا ينطق اسمه. «لكن لدينا أشياء فلسطينية أخرى هنا أيضًا!» يقولها بائع الكتب متفاخرًا، متجاهلًا إصبعي الذي يشير إلى النصف الأول من المؤلفين لأصّحح ما محاه. «انظري إلى هذا الملصق الإعلاني الفلسطيني العتيق عن الأحذية. إنه من عام 1967. هذا كنز نادر، وهناك تخفيض عليه!» يضيف دون أن يذكر أين وكيف عثر عليه. أشكره على عرضه، وأخرج من المتجر بخطى ثقيلة وأفكار حائرة حول النصف المفقود من القصة عن الأحذية التي في الملصق، والممارسات اليومية من الاستيلاء وسرقة الأرشيف.

الثانية مساء. بيت لحم. النسيم في حرم جامعة بيت لحم نسيم من الجنة. يمر من فوق حصار حائط الفصل كأنه روحٌ قُدُس. العمارة المبنيَّة من أحجار القدس تبعث على اليقظة لدرجة تجعل الأوهام والكليشيهات تنفد مني. أسير شاعرة بالخفة، غير مثقلة بالسرديات المقدسة والعدسات الإثنوغرافية. أسير مسرنمة، غير آبهة لقبح الاحتلال المعتاد. أسير مستمتعة، غير مبالية بمناشدات صديقتي كي أتوقف عن التقاط الصور، لأننا «لسنا سياحًا أجانب وهناك نقطة تفتيش لابد أن نعبرها!»

ليست هناك ساعة لحساب الوقت عند نقاط التفتيش، فقط انتظار قلِق يُقضى في طرقعة الأصابع، والشد العضلي، وصب اللعنات، والتأملات العبثية، والأحاديث الصغيرة مع أطفال الشوارع الذين يبيعون قطع اللبان. ولأننا أنزلنا زجاج نافذة السائق، نلنا تخفيضًا على لفافتين من لبان «صنع في تركيا» ونصيحة إرشادية لطريق مختصر: «لكي تتجنبا الطابور الطويل، استديرا إلى الشارع الخلفي ثم تقدما من أمام البيت الذي يعلق علم إيطاليا على الشرفة. ستكونان في مقدمة الصف.» لكن إيطاليا خسرت كأس العالم وعادت أدراجها. من سيرشدنا غدًا؟

السابعة مساء. القدس. طريق الخروج من القدس مغلق بسبب حرائق واسعة النطاق في ضواحي المدينة، خاصة بالقرب من «عين كارم»؛ وهي قرية فلسطينية دمرتها بالفعل نيران التطهير العرقي عام 1948. أدرت أنا وصديقتي الراديو العبري لكي نحصل على آخر الأنباء مباشرة. «الطريق السريع مغلق. المرور يعاد توجيهه إلى طريق 443.» نكرر أنا وصديقتي ما قاله مذيع الأخبار. نعرج في طريقنا إلى طريق 443، طريق الفصل العنصري المشؤوم، مخلفين وراءنا قدسًا تحترق وأشباح «عين كارم» الصارخة في استرحام: «ليس مرة ثانية!»

الثلاثاء، 27 أكتوبر 2015

معلمتي الأولى في الارتجال والعيش المبدع كانت هي ستّي آمنة. نتيجة لعلاج تقليدي فاشل لعمودها الفقري المرهق، فقدت عصبًا شظويًا. ونتيجة لهذا، كان لزامًا عليها أن تسير بقدم ثقيلة لبقية حياتها. لكن ستي آمنة لم تمش أبدًا وهي تسحب قدمها وراءها. فقط خاطت رباطًا مطاطيًا في مؤخرة صندلها المسطح، لترفع قدمها. ومضت في حياتها رافعة الرأس. مشت صاعدة التلال ونازلة منها، وجرت خلف أحفادها، وحفرت الآبار بيديها، وزرعت البقدونس والكزبرة في حاكورتها الخلفية، ورقصت في حفلات زفاف أقاربها، وطبخت لعائلة من خمسين فردًا في رمضان وفي عيد حصاد الزيتون في الخريف وموسم طبخ وتعليب البندورة في الصيف. وعندما كان الرباط المطاطي يترهل، كانت تعيد تدويره ليربط شيئًا آخر في البيت. ثم تخيط واحدًا جديدًا من أجل إمساك أفضل. عندما كان ينزل المطر، كانت إما ترتدي جوربًا، أو تخيط رباطًا مطاطيًا آخر على حذاء مسطح مقفول. بين هذا وذاك، كانت تقف أمام المرآة في الرواق الصغير كي تضفر شعرها الأسود الخفيف وتغسل يديها بنصف ليمونة من الشجرة الواقفة في حاكورتها الخلفية. من ركن قريب، كنت أحدق خلسة في انعكاس صورتها في المرآة. كانت تقف هناك: صغيرة الجسد، منتصبة، نضرة، ومشرقة كشمس ساطعة في يناير.

ستي آمنة، رسم سارة جوثو

الخميس، 17 يونيو 2016

الليلة تعلمت استراتيجية جديدة لقياس فلسطين جغرافيًا. يمكن للمرء أن يعبر من الشمال إلى الوسط على الطريق السريع في 13 دقيقة، وهو الوقت المساوي لمقدمة أغنية أم كلثوم «يا مسهرني». وإذا دندن المرء بكلمات الأغنية، يمكنه أن يستمر في القيادة إلى القاهرة بالضغط على زر إعادة التشغيل من أربع إلى خمس مرات. #تطبيقات الست للملاحة!

السبت، 11 فبراير 2017

درجة الحرارة المُجمّدة في الخارج 31 درجة فهرنهايت، والصمت في الشارع أمام نافذتي لونه أبيض إلى حد مميت. أنظف حجرة فتاتي الكبيرة استعداد لطهو عشاء صغير لـ15 شخصًا، والشيء الوحيد الذي يمكنني التفكير فيه هو زوجة جدي، فهمية، والريحان الأخضر النضر الملفوف في منديلها القماشي. منذ عامين، انتُزعت خالتي فهمية من مرأى حاكورتها الخلفية الغنية بالألوان التي ورثتها من ستّي آمنة واتجهت بحب كبير إلى وضع زهور بلاستيكية رخيصة في بيت للمسنين، حيث تستمر في محاربة الألزهايمر المبكر وأوامر فريق التمريض التي تمنعها من دخول حجرات المقيمين الآخرين دون استئذان. «لكني فقط أبحث عن ريحاني الأخضر النضر.» أتخيلها تحتج وهي تردد هذه الكلمات وتحرك يديها الواهيتين اللتين لا تزالان تتذكران عبير جمالياتها الفلاحية. فقط لو تدري أني أتذكر أيضًا نضارة لمستها، وأن ذكراها العطرة قد أدفأت للتوّ قارة متجمدة بأكملها.

خالتي فهمية، رسم سارة جوثو

الأحد، 12 مارس 2017

يوم في عطلة نهاية الأسبوع في منتصف مارس، درجة الحرارة فيه 20، وأنا أشعر أني غير متسقة كلية مع ترتيب الفصول في نيو إنجلاند. أقرر أخذ استراحة من غياب الربيع الذي يزيد من حدة معركتي المستمرة مع الكتابة عن المحو المزدوج للتاريخين الاستعماري والوطني. أستدعي عمتي سميرة من الموتى.

«قصصك غير موجودة يا عمتو.» أنوح في إحباط.

«إذن هيا اكتبيها. أتذكرين زب العبدة؟!» ترد عليّ صائحة بخبث قاطعة الطريق كله من قبرها مجهول الهوية في المدينة المنورة. «اكتبي عن الروابي وتفتح زهورها في وقتها. أتذكرين كيف علَّمتك التمييز بين الأعشاب التي تقتل والأعشاب التي تطيل عمر الحياة الجنسية؟»

«نعم أتذكر. وأتذكر أيضا ضحكتك المجلجلة عندما أصررت على تسمية ذلك النبات بزب العبدة، بينما كان الرجال جميعهم يقولون أنه كان ’زب العبد’. للأسف، رحلتِ أنتِ، ولم تعد الروابي موجودة. لقد احتلوها بمستوطنات قبيحة على طراز الضواحي الأمريكية بها إنترنت عالي السرعة وأسيجة كهربائية. أتصدقين أنهم حتى خفضوا أسعار الشرفات التي تطل على العرب؟!»

«لكن زب العبدة مازال هناك! أراهنك أنهم لن يعرفوا حتى كيف يجدونه ما بين الصخور. ليس لديهم فكرة عما ينمو في أفنيتهم الخلفية المسروقة. ليس لديهم حتى الذكريات العِرقية والجنسية كي يروونه بالماء، لكن لا تقلقي! إن زب العبدة دائمًا ما يجد طريقه إلى الربيع وحكايات الناس. إنه يتغذى على الأسرار المحفوظة جيدًا والتي شهدتها الروابي.»

السبت، 25 مارس 2017

ليلة الأمس، وجدت بطاقة بريدية قديمة لعروس بحر في متجر أطعمة محلي في سياتل. اشتريتها ووضعتها خلف شاشة حاسوبي على سبيل الإلهام. «لدينا نفس المشهد للمدينة.» قلت لعروس البحر.

من مذبح الكتابة همست: «احكِ لي حكاية عروس بحر سعيدة!»

لم أستطع بالطبع مقاومة ذيلها الذهبي المرفرف وأجبتها: «بالتأكيد!»

ذات يوم من الأيام، أو بشكل أكثر دقة أمس بعد الظهر، كنت في حوار مع صديقة عن سياسات التعري الأنثوي ومفاهيم قبول الجسد. في منتصف نقاشنا الحماسي، تذكرت يومًا قضيته مع صديقة فلسطينية محجبة على شاطئ كاريبي في بويرتو ريكو منذ عامين. كانت صديقتي ترتدي بوركيني أسود كامل التغطية وكنت أرتدي ثوب استحمام أخضر من قطعة واحدة انسجم لونه جيدًا مع أشجار النخيل العالية، لكنه لم يُخف ندوبي البُنيَّة اللون. «احترسي! هناك ضفدع بشري من حماس قادم في طريقه إليكِ.» مزحت معي من بين الأمواج وضحكت من أعماق بطني ذات الطبقات المترهلة بينما كنت أجلس على الرمال الدافئة، مغمورة في الشمس ومعجبة بشذوذ منظرنا وسط ذلك البحر من الأجساد الممشوقة، وعضلات البطن المشدودة، ومايوهات البيكيني الصاخبة الألوان. فيما بعد، جلسنا تحت عريشة في الماء الضحل، وأكلنا مكسرات من فلسطين، ودخَّنا سيجارًا بطعم الشيكولاتة، وغنينا أغنيات حب، وناقشنا رواية جوادالوب نيتل El cuerpo en que naci (الجسد الذي وُلدت فيه)، وتشاركنا قصصًا من شواطئ أخرى. حتى اليوم، أتذكر ذلك اليوم على الشاطئ الكاريبي، حيث عرفت لأول مرة أن عرائس البحر السعيدات هن نساء حقيقيات.

ترجمة: عبد الرحيم يوسف

____________________

 الرسوم لـ سارة جوثو Sarah Guthu

اعلان
 
 
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن