السياسات الشخصية: 25 يناير من عدسة الاكتئاب
استكشاف لمشاعر الأمل والهزيمة، والصحة النفسية في أعقاب الثورة
 
 
 
رسم: سلام يسري
 

«تشعر كأنك ميت. يقول لك الله: سأريك الجنة. ثم، بمجرد أن تطأها قدمك، يجذبك من قفاك ويلقي بك في الجحيم. رأينا الجنة عينها خلال الثمانية عشر يومًا، ثم ألم بنا واقع مفزع، أسوأ مما كنا عليه».

هذا ما قاله عمر، الشاب اليساري المنخرط في العمل السياسي لتسع سنوات، والذي يعالَج من الاكتئاب والتوتر والوسواس القهري منذ عام ونصف قبل ثورة 2011، والذي كان في التحرير خلال الثمانية عشر يومًا.

عرف عمر بتنحي حسني مبارك قبلها ببضع ساعات، واتصل بطبيبه النفسي وسأله ما إن كان ممكنًا أن يموت من فرط السعادة.

ظل الحماس باقيًا لفترة بعد الثورة، لكنه «انكسر» وسط موجات العنف.

يستدعي عمر ذكرياته قائلًا: «كسر ماسبيرو، بمدرعات الجيش التي دهست الناس، حالة النشوة والشعور بالقوة والحرية»، ويتابع: «جاء بعد ذلك محمد محمود، حيث مشهد إلقاء الجثث في القمامة، ثم اشتباكات مجلس الوزراء».

في ديسمبر 2011، وقع أمر آخر «قاتل» بالنسبة لعمر؛ تعرضت امرأة للضرب، خلال اشتباكات مجلس الوزراء، حيث ركلها الجنود في صدرها، وكشفوا عن ملابسها الداخلية الزرقاء تحت عباءتها. ما كسر عمر أكثر من الحدث نفسه كان رد الفعل الاجتماعي؛ فبدلًا من التنديد بالجناة، كانت العبارة الأكثر شيوعًا آنذاك هي «إيه اللي وداها هناك؟»، فضلًا عن حالة الافتتان بحمالة الصدر الزرقاء بالطبع.

بالنسبة لعمر، كان ذلك قاتلًا لأنه دمر أمله، ذلك الأمل الذي وهبته إياه «أخلاقيات الميدان».

«تشعر كأنك ميت. يقول لك الله: سأريك الجنة. ثم، بمجرد أن تطأها قدمك، يجذبك من قفاك ويلقي بك في الجحيم. رأينا الجنة عينها خلال الثمانية عشر يومًا، ثم ألم بنا واقع مفزع، أسوأ مما كنا عليه».

حين شعر أنه مكسور هكذا، «زادت طينة الاكتئاب بلة، مما حفز التوتر، الذي حفز بدوره الوسواس القهري، الذي استدعى المزيد من الاكتئاب، مما زاد من التوتر. وتستمر هذه الدائرة المغلقة حتى تبتلعني دوامتها»، حسبما يقول عمر.

وفي صيف 2013، بدأ المحيطون بعمر من المجموعات الثورية في استخدام كلمة «مكتئب» لوصف حالتهم النفسية.

وفي حين كان من الصعب التمسك بشعار «اليأس خيانة» في أوقات مختلفة سابقة، تحت حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وفي ظل الإخوان المسلمين، اختفى هذا الشعار تمامًا في 2013، وبشكل أكثر تحديدًا بعد فض اعتصام الإخوان المسلمين في رابعة العدوية في أغسطس 2013، حيث قتل أكثر من ألف شخص.

ربما يكون مفهوم «الاكتئاب السياسي»، الذي طوّره مشروع المشاعر العامة – Public Feelings Project، المرتبط بمجموعة من الأكاديميين النسويين في جامعة تكساس الأمريكية، حيث يعملون على استكشاف دور المشاعر في الحياة العامة، دقيقًا لوصف هذا الاكتئاب الجماعي المتفشي.

في كتابها «الاكتئاب: شعور عام»، تربط آن سفيتكوفيتش، بين الاكتئاب والفشل السياسي، وما تعنيه بالفشل السياسي هو «تلك اللحظات من الأزمة السياسية، حين تفشل المنظمات المختلفة، أو تغدو الأهداف السياسية في موضع شك، ويصير سؤال «ما العمل؟» تعبيرًا عن العبث وعدم الجدوى لا الدعوة إلى النضال».

تشير دينا مكرم عبيد، الأنثروبولوجية التي تبحث عن مكانة المشاعر في الحياة العامة، إلى أن جسامة ما حدث في رابعة مكنها من أن تكون بمثابة محفز لكثير من الأمور.

تقول دينا: «نظرًا لفداحته، كسر هذا الحدث الإحساس بالمسافة والزمن». وتضيف: «أصبحت رابعة وسيلة يعبر بها الناس عن أشكال أخرى من الإحباط والخسائر التي لم تكن كبيرة بما فيه الكفاية لوقف الوقت».

أوقفت رابعة الوقت، ليس فقط من حيث ضخامتها وفداحتها، بل أوقفته حرفيًا. في الأسابيع التالية، كان هناك حظرًا للتجول لعدة أيام، وكان الناس محاصرين في منازلهم. وفي خضم الارتباك السياسي، كان الناس محاصرين حرفيًا.

استمر تضييق الخناق على الساحة السياسية على قدم وساق، إذ استبدلت سياسات الشارع، التي كانت مركز ثقل في المجال السياسي في مصر في أول عامين بعد 25 يناير، بقانون صارم للتظاهر، واعتقالات جماعية للمتظاهرين، وحظر جماعة الإخوان المسلمين واعتقال أعداد كبيرة من أعضائها.

كان المجتمع المدني في طليعة المواجهة مع السلطات الحالية على مدار العام السابق، مع إعادة فتح قضية ضد عدد من منظمات المجتمع المدني والمدافعين عن حقوق الإنسان في 2016. وشهدت القضية، حتى الآن، فرض حظر السفر، وتجميد الأموال، علاوة على استجواب عدد من العاملين بالمجتمع المدني الذين يواجه بعضهم تهمًا قد تصل الأحكام فيها إلى السجن المؤبد. وضاق الخناق بشكل أكبر مع مسودة قانون المجتمع المدني، التي ظهرت بحلول نهاية العام، لتهدد عمل منظمات المجتمع المدني كافة، سواء كانت سياسية أو خيرية أو حتى مهتمة بنشر الفنون.

رسم: سلام يسري

حين يلتقي الاكتئاب السياسي بالشخصي

إذن كيف تؤثر الهزيمة السياسية على من يعانون الاكتئاب؟

في 2013، عمل عمر بالخارج في وظيفة جيدة ومستقرة، وكان يسافر ذهابًا وإيابًا من وإلى القاهرة، لكن مع فض اعتصام رابعة، ضربه الارتباك والتخبط.

يقول عمر: «من 13 أغسطس 2013 وحتى 21 يناير 2014، كنت أتناول كميات كبيرة من الأدوية -مضادات اكتئاب، ومضادات ذهان، وأدوية أخرى تساعدني على النوم- ورغم ذلك لم أكن أنام أكثر من ساعتين بحد أقصى».

وفي السنوات القليلة الماضية، أصيب عمر ببعض أعراض البارانويا، التي لم تكن لديه من قبل: «كنت أعتقد أن أحدًا ما يتبعني، وأن هاتفي مخترق، وأمورًا من هذا القبيل».

أما غادة، التي عانت من اكتئاب مزمن لعدة أعوام، فتتردد لديها أصداء بعض من هذه المشاعر، في إسقاطها على مدى قدرة هذه الحالة من غياب الأمان على التأثير بسهولة في النشطاء المنخرطين في المجريات السياسية، والذين لديهم أيضًا تاريخ مع الاكتئاب.

تقول: «2016 هو عام الخوف بالنسبة لي. شعرت بخوف لم أشهد له مثيلًا من قبل. حين يجتمع الخوف والاكتئاب، يحل عليّ شلل كامل».

تشرح غادة أنها تختبئ بهدوء داخل غرفتها، حين يقرع الباب بعد الثامنة مساءً، خوفًا من الشرطة. كما تعبر أيضًا عن خوفها من الاعتياد على مضادات الاكتئاب، إذ تخشى أن يجعلها اعتمادها الكامل عليها أسيرةً لها.

تتحدث غادة عن بعدين أساسيين في المجال السياسي يؤثران على اكتئابها. يتعلق البعد الأول بالصراع من أجل الشعور بالحياة بعد الثورة. فتربط اكتئابها بما تشعر به من ملل على الصعيد السياسي، بمعنى أن لحظات الإحباط السياسي تحفز الفترات الأكثر سوءًا من الاكتئاب المزمن المستمر.

«2016 هو عام الخوف بالنسبة لي. شعرت بخوف لم أشهد له مثيلًا من قبل. حين يجتمع الخوف والاكتئاب، يحل عليّ شلل كامل»

تقول: «كانت الثورة صدعًا في هذا الملل السياسي، حيث التعامل مع الشيء نفسه لفترة طويلة، كصحفية، وكناشطة، وكمدافعة عن حقوق الإنسان. كسرت الثمانية عشر يومًا حلقة الملل بطريقة مذهلة للغاية. فجأة، صرنا نشهد أمورًا لم نشهدها من قبل قط. وهذه إحدى مشكلات الثورة: لا شيء يرقى إلى مثل هذا المستوى من الإثارة والحماس. نبحث دومًا عن شيء على مستوى هذه اللحظة ولا نجده. وهذا محبط بالتأكيد».

وعن حالتها الراهنة، تقول: «لا شيء بإمكانه إلهامك، لا شيء يمس روحك، لا شيء يخترق صدرك وعقلك ويجعلك تشعر أنك حي. نحن نحيا بطريقة آلية للغاية».

أما البعد الآخر الذي تتفاعل فيه المشاركة السياسية بالصحة النفسية لغادة، فهو الاضطرار إلى الحياة في ظل الأزمة الخارجية التي تؤدي بدورها إلى تدهور الأزمة الداخلية، فقد قضت معظم الخمس سنوات الماضية في حضور جلسات المحاكم، وزيارة أصدقائها في السجون، والتعامل مع عائلاتهم، أو انتظار سجن آخرين في قلق وتوتر. تقول: «أعتقد أن هذا هو السبب في شعوري بتسارع أعراض الاكتئاب. لطالما شعرت أن هذه ليست أولوية الآن، وأن هناك أمورًا عاجلة أكثر إلحاحًا. كانت حالتي الشخصية هي الضحية دائمًا».

أما سارة، التي شَخَّص الطبيب حالتها بعد عام ونصف من الثورة بالاضطراب ثنائي القطب، تلك الحالة التي تتسم بفترات من الاكتئاب والمزاج المرتفع، فقد أثرت لحظة رابعة العدوية على حالتها الداخلية على نحو مسموم.

تقول سارة: «كنت مهووسةً خلال العام 2013، وفي مزاج مرتفع، ثم جاءت مشاعر الحزن والغضب في رابعة لتلتقي بهذا المزاج المرتفع، وتطورت إلى ذهان صادم ومؤلم يستوحي محتواه مما حدث في رابعة».

وبناءً على ما شهدته من أزمات على مستوى صحتها النفسية، تطرح سارة أن كل الأحداث، سواء كانت سياسيةً أو شخصية، يمكن أن تكون محفزًا من نوع ما.

تقول: «مع كثافة الأحداث في السنوات القليلة الماضية، تحدث الكثير من الأمور الكبيرة في العالم الخارجي، وفي الوقت نفسه يتغير العالم الداخلي أيضًا».

وعلى هذا النحو، تعتقد سارة أن الخمس سنوات الماضية قد أحيت قضايا الصحة النفسية بين هؤلاء المعرضين لها.

الصحة النفسية والسياسة

بشكل عام، ترتفع معدلات مشكلات الصحة النفسية، بالأخص التوتر واضطرابات كرب ما بعد الصدمة، بعد الثورات والحروب الأهلية والأشكال الأخرى من الاضطرابات السياسية. فيما يحذر الطبيب النفسي مصطفى حسين من عدم وجود رصد حقيقي لهذه المعدلات في مصر، حتى أن الدراسة اﻷخيرة التي رصدت حدوث مثل هذه الحالات صدرت قبل 2011، حسبما يقول.

ويشير مصطفى إلى أن هذه الفترة شهدت، في الوقت نفسه، نقصًا في توافر الخدمات، وعجزًا في الأدوية الأساسية التي يعتمد عليها أولئك الذين يعانون من مشكلات في الصحة النفسية.

«كانت الثورة صدعًا في هذا الملل السياسي، حيث التعامل مع الشيء نفسه لفترة طويلة، كصحفية، وكناشطة، وكمدافعة عن حقوق الإنسان. كسرت الثمانية عشر يومًا حلقة الملل بطريقة مذهلة للغاية. فجأة، صرنا نشهد أمورًا لم نشهدها من قبل قط. وهذه إحدى مشكلات الثورة: لا شيء يرقى إلى مثل هذا المستوى من الإثارة والحماس. نبحث دومًا عن شيء على مستوى هذه اللحظة ولا نجده. وهذا محبط بالتأكيد».

يقول مصطفى إن الثورة والاضطرابات السياسية كشفت عن بعض الأمراض النفسية لدى بعض الناس، تلك الأمراض التي تفاعلت مع خبراتهم الصادمة والمؤلمة، أو سارت أحيانًا بالتوازي معها، لتؤدي إلى تعطيل قدرتهم على الفاعلية والنشاط.

وهو لا يعتقد أن النظر في تأثير الاضطرابات على الصحة النفسية أمر سابق لأوانه، «لكن لا بد أن ندرك أن هناك تأثيرات قصيرة ومتوسطة وطويلة الأمد».

على سبيل المثال، تتضمن حالات الدكتور مصطفى أناسًا لديهم واحد على الأقل من أفراد أسرتهم في السجن. «نحن نعلم أن الحرمان الأبوي في سن مبكرة يعد واحدًا من عوامل الخطر التي ينتج عنها مشكلات في الصحة النفسية، مثل الإدمان».

يشير مصطفى أيضًا إلى الفقر المتزايد باعتباره ذا تأثير طويل المدى على الصحة النفسية. وكان تقرير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، الصادر في 2016، قد أقر بأن هناك فقرًا متزايدًا واتساعًا في فجوة اللا مساواة، مشيرًا إلى أن ارتفاع الأسعار وزيادة الضرائب قد أثرا بشكل غير متناسب على الفقراء.

وتعتبر أوقات الاضطرابات السياسية وسيلةً للنظر في البعد الاجتماعي للاضطرابات النفسية والعاطفية.

أثناء الحكم العسكري في الأرجنتين، شهد الاتحاد الرئيسي للأطباء النفسيين صراعًا عميقًا على قضية سياسات الصحة النفسية، التي تعتبر مهمة ومتفجرة في العاصمة بيونس آيرس، حيث أكبر نسبة للأطباء النفسيين إلى السكان في العالم. دار الخلاف -الذي ناقشه أستاذ علم الاجتماع بجامعة كاليفورنيا الأمريكية، أفري جوردون، في كتابه «Ghostly Matters» – حول العلاقة بين الحالة النفسية والعالم الاجتماعي، مما أشعل الصراع بشكل مفتوح في سياق إرهاب الدولة وحالات الاختفاء القسري المنتشرة على نطاق واسع. كان لدى الأطباء اليساريين مخاوف نظرية -مثل ما إذا كان من المعقول التحدث عن الصدمات النفسية المكبوتة في ما يتعلق بالطفولة والأسرة في حين أن الدولة تعتبر عاملًا أوليًا في هذه الصدمات- ومخاوف عملية أيضًا -مثل كيف تجري التداعيات الحرة والأحاديث غير المنظمة أثناء الجلسات مع الطبيب النفسي في مجتمع لا يعد التداعي الحر فيه ممكنًا.

لكن اللحظة الاستثنائية التي نرى فيها الطبيعة الاجتماعية لهذه الخبرات الشخصية تعد أيضًا بوابةً لرؤية الكيفية التي يتأصل بها البعد الاجتماعي للصحة النفسية في الأزمات اليومية، وليس فقط في لحظات الأزمة. يرى هؤلاء الأطباء أن الصحة النفسية هي دائمًا شأن اجتماعي وسياسي.

وترى دينا مكرم عبيد أن عمل سفيتكوفيتش مفيدًا، إذ أنه «يستحضر الأبعاد الاجتماعية والسياسية في الصورة، لكنه أيضًا لا يدّعي أن هذا هو الأمر وكفى، فنحن لا نريد استبدال النقاشات الطبية حول الاكتئاب بالنقاشات التي ترى الأزمة مجردةً في الرأسمالية أو الاستعمار أو أيًا ما كان، أو أن الرأسمالية أو العنصرية أو التمييز على أساس الجنس هو ما يمنعني من النهوض من فراشي في الصباح، كما تقول سفيتكوفيتش في كتابها».

فيما يحذر الدكتور مصطفى من خلط الاكتئاب من الوضع السياسي مع معاناة الاكتئاب أو تناول الأدوية بشكل متزايد وبمعدلات إدمان مرتفعة.

هناك شعور بأنه على الرغم من القبول البادي والمتزايد لمفاهيم الصحة النفسية، والتفاهم الأكبر المعكوس في زيادة استخدام لغة هذه المفاهيم، إلا أن الصحة النفسية تزداد اختفاءً في الحقيقة.

بالنسبة لعمر، يستخدم الكثيرون من حوله كلمة «مكتئب» على نحو متزايد لوصف مشاعرهم وحالتهم النفسية منذ 2013، وهذا ساهم في إخفاء معنى الاكتئاب أكثر فأكثر.

يقول عمر: «إذا قلنا إن الاكتئاب يعني أنك لست سعيدًا، فماذا عمن يعجزون عن الشعور بالسعادة من الأصل، أو الذين لا ينامون أو ينامون 20 ساعةً يوميًا، ويدخنون ويشربون باستمرار، ولا يتحدثون مع أحد، ويتحاشون رؤية الناس، ولا يعملون، ولا يتحدثون على الهاتف، إلخ؟ ماذا نسمي هؤلاء إذن؟».

رسم: سلام يسري

ويخشى عمر من أن يفقد المصطلح معناه من كثرة استخدامه. لكن هذا لا يعني أن هناك حالةً من الحزن الجماعي تسود بين زملائه ورفاقه.

عادةً ما يستخدم مصطلح «انعدام التلذذ – anahedonia» لوصف هذا الشعور: العجز عن الإحساس بالسعادة. يقول عمر: «هذا العجز عن الإحساس بالسعادة هو جزء من الاكتئاب ولا يمكن أن يأتي وحيدًا دونه»، ويضيف: «يسود هذا الشعور على نطاق واسع. إنه ليس عرضًا عابرًا بل ظاهرة».

أما في تقدير سارة، يستخدم مصطلح الاكتئاب كاستعارة مجازية عن فقدان الأمل، وعلى نحو ليس دائمًا مفيدًا. تقول: «بالنسبة لمن يعاني هذا الاضطراب النفسي، لا يرتبط الاكتئاب بحدث معين، بل يظل إلى الأبد كإيقاع ثابت في الحياة».

الأمل المتزعزع واليأس كنقيضين

الأمل واليأس أيضًا لديهما إيقاع أكثر تعقيدًا مما تطرحه فكرة أن الأمل يمهد الطريق للقنوط واليأس. وهذا الإيقاع له آثاره، ليس فقط على النشطاء ومشاعرهم، بل أيضًا على صعيد فهمنا للسياسة.

هنا خطّية واضحة في الفكرة القائلة بأن 25 يناير كان وقتًا للأمل والبهجة والنشوة، ثم جاء اليأس مع سقوط وفقدان الأمل، وكما تشير دينا مكرم عبيد، فإن «لا شيء يجري بهذه الخطّية على الإطلاق، ناهيكم عن الحركات الاجتماعية التي تأتي في صورة موجات».

تشير دينا أيضًا إلى أن «ثنائية «اليأس خيانة»، و«إحنا مكتئبين» تستبد بالنقاشات».

وتضيف: «مع الفكرة القائلة بأن اليأس خيانة، هناك شعور بأنك إذا أردت أن تكون جزءًا من هذه المجموعة، فهذه هي المشاعر المسموح لك بها. وإذا كانت لديك مشاعر أخرى، يستبعدوك في مرحلة ما. وكما هو الحال، من غير المقبول أن تعبر على فيسبوك عن مدى حبك لحياتك. ربما يكون بعض الناس سعداء ومحرجين من قول ذلك».

وكغيرها ممن شهدوا العام 2013 كعام من الهزائم السياسية المدمرة، تقول: «لم يكن بوسعنا إلا أن نشعر بالاكتئاب بسبب كل ما يحدث حولنا. من الجيد أن تتوافر مساحة للحديث عن مشاعر أخرى، لكن إحساسًا خانقًا أن نقول إننا في الواقع لسنا على ما يرام بينما نحقق انتصارات فعلية».

«بالنسبة لمن يعاني هذا الاضطراب النفسي، لا يرتبط الاكتئاب بحدث معين، بل يظل إلى الأبد كإيقاع ثابت في الحياة».

وكجزء من الأبحاث غير الرسمية التي عكفت عليها دينا مكرم عبيد، استكشفت ما أطلقت عليه «مسارات الصحة النفسية». إن إحدى العواطف التي برزت بقوة في العامين الأولين بعد 25 يناير، والتي تعقد من سرد تطور المشاعر، هي الخوف الكامن داخل الشخص من ألا يبدو بطلًا بما يكفي. «كان هذا الشعور متفشيًا بين أولئك الذين يناضلون بالفعل وبداخلهم إحساس بعدم الكفاية».

من المهم ألا نخلق نقاشات لتقييد المشاعر، أو أن نصم بعض العواطف بأنها أكثر ثورية من أخرى.

لطالما أصر اليسار، على المستوى العالمي، على سياسة الأمل، باعتبارها السياسة الوحيدة التي تأتي بالنتائج. لكن هناك شكوك متزايدة لدى بعض الأكاديميين حول الارتباط الكلاسيكي بين الأمل والثورة. وهناك استكشافات تجري حول حقيقة أننا لسنا فقط محكومين بالخوف، بل بالأمل أيضًا. وإحدى الحجج الرئيسية التي تسوقها سفيتكوفيتش في كتابها هي أن السياسة الجيدة لا تنبع فقط من المشاعر «الجيدة»، لكنها قد تنشأ أيضًا عن مشاعر «سيئة».

«لم يكن بوسعنا إلا أن نشعر بالاكتئاب بسبب كل ما يحدث حولنا. من الجيد أن تتوافر مساحة للحديث عن مشاعر أخرى، لكن إحساسًا خانقًا أن نقول إننا في الواقع لسنا على ما يرام بينما نحقق انتصارات فعلية».

أما مي خميسي فتبحث عن كيف اصطف النقابيون، الذي ساهموا في إسقاط الرئيس الأسبق حسني مبارك، إلى جانب الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، بتوقيع اتفاق يقيد حقهم في التنظيم، معتقدين أن خطاب الإضرابات والاحتجاجات يقف ضد مصالحهم ومصالح مصر. وكان النقابيون المستقلون قد تعرضوا لانتقادات شديدة من قبل المجموعات الثورية على استمالة السيسي لهم، بعد أن أشيد بهم سابقًا في 2011 كقوة ثورية. ترى خميسي أن «نفس الخوف من فقدان مصدر رزقهم هو الذي جعلهم يخافون من خوض الاحتجاجات». وتناقش خميسي كيف يمكن أن تؤدي المحاولات المستمرة، على سبيل المثال، لتغيير القانون، والتفاوض مع الدولة، والتفاعل المستمر مع المجالس المحلية، إلى تغيير مفاهيمهم عن السياسة، بحيث يتعلمون خلال هذا العمل الجماعي كيف يمكن، مثلًا، أن تكون الديمقراطية تشاركية. هكذا تأتي أشكال مختلفة من السياسات والتغييرات، لذا تجادل خميسي بأن ما يسمى بالمشاعر السلبية «يمكن أن تنتج شيئًا، وبهذا المعنى قد تكون مفيدة».

وفي ظل الافتقار إلى الأمل، ربما نجد بعض العزاء في المفهوم الذي تطرحه سفيتكوفيتش والذي يفيد بأن المشاعر السيئة ربما تمثل «إمكانيات منتجة»، رغم أن ذلك لا يحدث بسهولة.

ترجمة: أشرف عمر

اعلان
 
 
نايرة أنطون 
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن