فجر يوم من أيام نوفمبر الماضي انتبه سليمان*، ابن مدينة العريش، لأضواء تملأ الشارع فطل من الشرفة لاستطلاع الأمر، وإذ بسيارة تابعة للأمن ودبابة جيش ينزل منهما مقنعون أخذوا في تسلق العمارة المجاورة، التي يسكن فيها قريبه، محمد أيوب، حتى وصلوا سطح العمارة.
يقع مسكن سليمان ومحمد بالقرب من فندق «سويس إن» على ساحل البحر المتوسط، في منطقة كانت تعد مركزًا سياحيًا للمدينة قبل انهيار السياحة مع تدهور الوضع الأمني منذ 2013، حيث ازداد في الشهور الأخيرة تأثر العريش بالحرب الدائرة بين الجماعات المسلحة وقوات الأمن، والمتمركزة بشكل أساسي في رفح والشيخ زويد شرقي المدينة، التي ارتفعت بها وتيرة العمليات الإرهابية، كما توسعت ممارسات الأمن من القبض العشوائي وتفتيش المنازل.
يقول سليمان إنه سمع بعد ذلك أصوات تكسير أبواب وفوضوى كبيرة، مضيفًا: «بسبب انعدام الأمن، الواحد لما بيسمع أصوات زي دي ما يبقاش عارف ده أمن ولا بلطجية ولا إرهابيين، فكنت خايف إني أطلع أشوف فيه إيه».
علم سليمان بعد ذلك أن قوات الأمن اقتحمت شقة محمد، وألقت القبض عليه مع أخيه، 18 عامًا، وأبيهما. بعد احتجازهم بقسم الشرطة لمدة يومين، خرج الأخ والأب واختفى محمد، لتبدأ رحلة البحث التي أصبحت مألوفة لمئات الأسر التي راح أحد أفرادها ضحية الاختفاء القسري.
الجمعة الماضي، أعلنت وزارة الداخلية في بيان مقتل عشرة شباب في اشتباكات مع قوات الشرطة إثر اقتحامها لوكر إرهابي بالعريش، وشمل البيان أسماء ستة من المقتولين، كان بينهم محمد أيوب، فيما قالت الوزارة إن الأربعة الآخرين لم يتم التعرف عليهم، واتهمت الشباب المقتول، بالمشاركة في الهجوم الإرهابي الأخير على كمين بالعريش يوم ٩ يناير، والذي راح ضحيته سبعة شرطيين ومدني.
انتفض أهل المدينة بعد صدور البيان، مؤكدين أن الأسماء المعلنة من أبناءهم المختفين قسريًا منذ شهور بعد إلقاء قوات الأمن القبض عليهم، وعقدوا اجتماعًا ضم معظم عائلات المدينة هددوا خلاله بالعصيان المدني.
لم يجد سليمان الكثير ليقوله عن حياة محمد، 23 عامًا، غير أنه يعمل سائق بعد تخرجه من «ثانوي صنايع» وتتمحور حياته حول العمل والبيت.
يحكي سليمان: «رحنا نسأل عليه قالولنا ده في كتيبة ١٠١، وبعدين قالوا ده في قسم تالت العريش، وبعدين في الأمن الوطني، وبعدين قالوا ده اتنقل الإسماعيلية، وفي الآخر قالولنا اصبروا هيطلع بعد يومين، ماشوفناهوش من أول ما اتاخد، ٥٠ يوم، لحد ما لقينا اسمه في بيان الداخلية. ازاي يقولوا مات في عملية وهو كان عندهم وهم المسؤولين عن سلامته؟»، مضيفًا أن الأسرة علمت مكان الجثث من ممثلي سيناء في مجلس النواب بعد أن أبلغتهم السلطات بإمكانية استلام الجثامين من مستشفى الإسماعيلية العام.
يقول سليمان إن ما أسماه ظاهرة «خطف الشباب» من الشوارع أو من داخل البيوت وعدم تسجيلهم في أي جهة، ما يجعل من الصعب التوصل إليهم، أصبحت ممارسة معتادة في شمال سيناء.
بعد بيان الداخلية، تدفقت البلاغلات عن مختفين قسريًا من أبناء سيناء على موقع فيسبوك في مبادرة شعبية لتوثيق هذه الحالات كوسيلة لحمايتهم من مصير الشباب العشرة.
فجر إعلان الوزارة الغضب في العريش، فخرج الآلاف من أبناء المدينة في جنازات شعبية لتشييع جثامين ثلاثة من الشباب وصلت للمدينة، هاتفين «حسبي الله ونعم الوكيل»، و«الداخلية بلطجية»، في أكبر تحرك شعبي تشهده المدينة منذ ٢٠١١.
ليلة أمس الإثنين شيع أهالي العريش جثماني شابين آخرين من العشرة، هما عبد العاطي عبد العاطي، وابن عمه أحمد يوسف رشيد، 24 عامًا، بحسب صفحات محلية على فيسبوك، التي نشرت صورة لمنزل أحمد المحطم جراء اقتحام قوات الأمن له في شهر أكتوبر للقبض عليه. وتُظهر صفحة أحمد يوسف على فيسبوك زواجه في شهر أغسطس الماضي قبل القبض عليه بشهرين، وهو ما أكده أفراد أسرته عبر صفحاتهم. كما أعاد معارف أحمد نشر تدوينات قديمة لهم يطالبون فيها بالإفراج عنه ليؤكدوا أنه كان في حوزة السلطات.
يقول سليمان: «احنا صبرنا كتير على تهجير وتجريف أراضي وقبض عشوائي، لكن مش هنستحمل إن ولادنا يجيولنا مضروبين بالنار، وكمان متهمين بالإرهاب، الوضع لا يمكن يستمر كده ما دام مبقاش فيه قانون يحمينا، واللي المفروض يحمينا هو اللي بيقتلنا»، مضيفًا: «احنا بقت شغلانتنا نوصل الناس للقبور وبس».
———————————————————–
* اسم مستعار
عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر
أشترك الآن