تدوينة عن الديجافو والتكرار والأمور الغريبة في العالم: من رأى القطة؟

كنت أجلس مع بعض الأصدقاء نتبادل الطرائف والحكايات محاولةً لكسر الملل، وكانت الجلسة بدأت تأخذ شكل المنافسة غير الصريحة حول مدى طرافة كل قصة، حتى صاح صديق بأنه يملك القصة الفائزة لذلك اليوم، ثم انطلق منه سيل من الأَيْمان بأن قصته حقيقية، ووقعت أمامه مباشرة ورآها بأم عينه، وأخذ يؤكد ذلك من قبل حكيها حتى، ثم استرسل ليحكي أنه ذات يوم كان يأكل من عربة من عربات أكل الشارع، وقفزت قطة بدون أسباب واضحة في وعاء مليء بالطحينة المستخدمة في الساندوتشات، ووسط دهشة المحيطين التقط صاحب العربة بيده القطة من ذيلها ليمسح بيده الأخرى الطحينة اللاصقة بجسد القطة وسط مقاومتها، كأنه يعتصرها ليتأكد تمامًا من عدم هدر أي طحينة على جسد القطة المسكينة، ليضحك المارة، ويستمر الآكلون في الأكل غير عابئين بمستوى نظافة وصحة ذلك الأكل!

انفجر الجالسون ضحكًا ما عداي، فقد كنت مشغولًا بأمر آخر؛ هل سمعت تلك القصة من قبل، أم رأيت ذلك الموقف بعينه؟ كنت نسيت الموضوع تمامًا حتى جلست مرة أخرى مع مجموعة مختلفة من الأصدقاء في سياق مشابه من تبادل القصص الطريفة، حتى صاح ذلك الصديق بأنه يملك القصة الفائزة لذلك اليوم، ثم انطلق منه سيل من الأيمان بأن قصته حقيقية!

أهي حالة ديجافو قوية، أم أنه يحكي نفس القصة بنفس التفاصيل بنفس القطة التي تهوى القفز داخل أوعية الطحينة في جميع عربات أكل الشارع فيما يبدو؟

الفكرة التي سيطرت على عقلي وقتها كانت ستدفعني إلى الجنون، خاصة أني سمعت القصة نفسها عشرات المرات بعدها من أشخاص كلهم مقتنعون أنهم شاهدوها بأعينهم. وأعتقد في الواقع أن أغلب من يقرأون تلك الكلمات الآن سمعوا نفس القصة، وربما يخيل للبعض أنهم شاهدوها بأنفسهم، ولنا هنا وقفة. هل توجد أمثلة أخرى لمثل تلك القصة، أمثلة لقصص يظن عدد من البشر لا تجمع بينهم علاقة أنها حدثت لهم، وتتشابه تفاصيلها لدرجة مريبة؟

في الواقع يمكنني تذكر بعض القصص المشابهة، على سبيل المثال وليس الحصر ذلك الصديق الذي كان ينطلق بسيارته في شارع سريع مظلم بسرعة جنونية، لتظهر تلك الفتاة أمامه مباشرة ولا يستطيع تفاديها، ليصدمها بقوة، فينزل من سيارته ولا يجدها! الغريب في تلك القصة أنها ذات سمعة عالمية، وهناك أيضًا قصة منتشرة للغاية على مستوى العالم بأكمله، وان كانت غير ذي صيت كبير هنا، عن الرجل الذي يظهر في أحلامك، ولا يشبه أي شخص تعرفه، والغريب في القصة أنه نفس الرجل في أحلام جميع من حلموا به وله صورة تخيلية معروفة على الإنترنت، ويكفي فقط استخدام أي محرك بحث وضع كلمات «The man in dreams»، وستظهر لك صورة مرسومة لذلك الشخص المشترك في أحلام ملايين من البشر بقصص كثيرة مختلفة، وأحيانًا متشابهة!

قصة أخرى حدثت مؤخرًا،وأخذت سمعة عالمية أيضًا، هي عن اللعبة الشهيرة التي تدعي استحضار روح شخص يُدعى تشارلي، وكانت تتطلب قلمين وورقة وأنت تعرف الباقي بالتأكيد، ومن منا لم يجرب وقتها أن يكتبCharlie Charlie, are you here?

في الواقع، ورغم سهولة إثبات خطأ ذلك الهراء، إلا أن جمعًا من الناس ظلوا يصدقونه، ناهيك عن القلم الذي كان يفاجئنا في أحيان كثيرة بالتحرك، أحيانًا بسبب الهواء، وأحيانًا أخرى لأننا أردنا رؤيته يتحرك. لم تعلق تلك التجربة كثيرًا بالأذهان على أي حال، لأن سهولة إثبات خطأها كانت أقوى من أي ادعاء آخر، ولكن ليت الأمر بتلك السهولة، فهناك الكثير من القصص الأخرى.

من منا غير مقتنع تمام الاقتناع أنه يتذكر مشاهد كاملة التفاصيل من طفولته المبكرة؟ ورغم أنه علميًا، يكاد يكون هذا الأمر أقرب إلى الاستحالة، لكن تذكرك للمشهد أقوى من أي علم، ورغم أن بعض تلك المشاهد حكتها لك أمك مئات المرات، لكنك تصر على كونك تتذكرها بنفسك دون أن يحكيها أحد لك!

هل نعيش في محاكاة من صنع الكمبيوتر؟

اجتمع فيزيائيون وفلاسفة رفيعو المستوى لمناقشة ما إذا كنا كبشر حقيقيين أم افتراضيين، وما الذي يعنيه كل احتمال، ناقش الباحثون هذه الفكرة المُثيرة للجدل يوم الثلاثاء 7 أبريل 2016، في ذكرى المنتدى السنوي التذكاري للأديب إسحاق عظيموف، وذلك بالمتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي.

أدار النقاش نيل ديجراس تايسون، مدير القبة السماوية «هايدن» في المتحف، وكان رأيه أن احتمال أن تكون كل حياتنا مجرد برنامج، على كمبيوتر أحد الأشخاص، يُقدر بنسبة 50%. حيث قال: «أعتقد أن احتمالية ذلك قد تكون عالية للغاية»، وناقشت هذه الفكرة أفلام عديدة أهمها سلسلة The matrix.

هل هذا هو التفسير؟ لا ليس هذا أيضًا، إلا لو اعتبرنا أن تلك الأفكار المسربة للعقل الجمعي هي فيروسات صغيرة دخيلة على المحاكاة، أوأخطاء في التصميم، أو أُدخلت من قبل التسلية فحسب.

لكن ما هو العقل الجمعي؟

العقل الجمعي هو ظاهرة نفسية تفترض فيها الجماهير أن تصرفات الجماعة في حالة معينة تعكس سلوكًا صحيحًا. ويتجلى تأثير العقل الجمعي في الحالات التي تسبب غموضًا. ولكن هل هذا تفسير كافي لتصديق قصة ما منتشرة إلى الحد التي قد تتخيل معه أنك رأيتها بنفسك، وأنها أصبحت جزءًا من ذكرياتك؟ لا أعتقد هذا أيضًا، فالعقل الجمعي قد يفسر تصديق قصة ما بشكل طردي لمعدل انتشارها، ولكنه لا يفسر شعورك بأنك اختبرتها بنفسك.

يمكن تفسير انتشار تلك القصص؛ في سنة 1976 قام البيولوجي ريتشارد دوكنز بإحداث لفظ «ميم» (وحدة)، أو بالانجليزية «Meme»، ويشير هذا المصطلح إلى وحدة المعلومات الثقافية التي يمكن نقلها من عقل إلى آخر بطريقة مشابهة لانتقال الجينات من فرد إلى آخر، وأعطى دوكنز أمثلة عن «الميمات»، مثل العبارات الملتقطة في الشارع كموضات اللبس المختلفة، والكلمات الدارجة المستحدثة التي تنتشر سريعًا، ونستطيع أن نطلق عليها أيضًا عدوى السلوك أو الثقافة، في آلية تشبه كثيرًا آلية انتشار الشائعات والخرافات، أو مثل القصص التي لا نستطيع تأكيد حدوثها أو نفيه، وتتشاركها مجموعة من البشر يظنون جميعًا أنها وقعت معهم، وأصبحت وسط ذكرياتهم الخاصة.

هناك سؤال آخر يطرح نفسه: لماذا تتخذ كل تلك القصص بعدًا ميتافيزيقيًا، أو بكلمات أخرى لماذا تمتاز بالغرابة؟ نستطيع أن نفسر ذلك أيضًا بما يسمى «الذاكرة الانتقائية»، وهي ببساطة عدم قدرة مخك على تذكر بدقة تفاصيل حياتك اليومية الروتينية لتكررها، ولشعور عقلك الباطن بعدم أهميتها، بينما أي حدث غريب يقع في وسط يومك الممل ينتبه إليه المخ بشدة ويسجله. وهذا بدوره يؤدي إلى مغالطات كثيرة من منطلق أن مخك يعطي الإحداث الغريبة أو المميزة أكبر من حجمها. ودعني أعطيك مثالًا منتشرًا ومشهورًا جدًا وهو «الشيروفوبيا»، أي رهاب السعادة. لماذا يخاف بعض الناس من الشعور بالسعادة؟ هناك اعتقاد سائد أن أي فرحة يأتي بعدها حزن وغم، ولا يعلم المصابون بهذا الرهاب أن أشهر مغالطة تقوم بها الذاكرة الانتقائية في المخ هي تسليط الضوء على جميع المرات التي حدثت فيها مصيبة تلت الشعور بالسعادة. وإذا كانت الذاكرة أكثر حيادية، فستعرف أن معدل حدوث كارثة ما بعد شعورك بالسعادة مباشرةً أقل بكثير من معدل حدوث أحداث عادية تمامًا بعد شعورك بالسعادة، ولكن المخ فقط لا يسلط الضوء عليها، ولذلك من الطبيعي أن تجد أن القصص المنتشرة هي التي تمتاز بغرابتها.

لنلخص الأمر إذن؛ الكل لديه ذلك العدد من الأصدقاء الذين رأوا العفريت، وأغلبهم لا يكذب حقًا فاتهامهم بالكذب قاس قليلًا، ولكن رؤيتهم للأشباح وما شابه تمكن تفسيرها بسيطرة الخرافات على المجتمعات غير العلمية ودول العالم الثالث، ولكن ما لا يمكن تفسيره هنا هو انتشار قصص بعينها يظن عدد من الناس أنها حدثت معهم. في الواقع أن المريب في الأمر هو أن الكثير منهم سمع نفس القصة كثيرًا حتى تهيأ له أنها حدثت معه بشكل شخصي.

«الزن على الودان أمر من السحر» أم أنه سحر من نوع خاص؟ مثل تلك الأحداث التي حكتها أمك عن طفولتك الرضيعة حتى ظننت انك رأيتها، أم أنك رأيتها حقًا؟

هل تكرار نفس القصة كثيراً يشبه غسيل المخ ويشتت الذاكرة بشكل مباشر وصريح؟ قرأت بعض الأمور حول الحروب النفسية عما حدث أثناء حرب فيتنام، عندما كان الجيش الأمريكي يستخدم مكبرات صوت ترسل أصواتًا باللغة الفيتنامية، كأنها أصوات من ماتوا في الحرب، لأنهم لم يُدفنوا على نحو لائق وفقًا للمعتقدات الفيتنامية، وكانت الأصوات المستمرة تبعث الرعب في الجنود الفيتناميين تارة، وتخبرهم أن أرواحهم معلقة ومعذبة تارة أخرى، كما كانت تطلب منهم الرحيل والهرب من المعركة. استمرار تلك الأصوات جعلها في أذن الجنود الفيتناميين حقيقة مطلقة لا تقبل النقاش.

هناك أيضًا بعض النظريات التي تستنتج أن سببًا رئيسيًا من أسباب نجاح الإعلانات هي تكرارها تكرارًا لا يكل ولا يمل، بحيث تعتقد أنه لن يمكنك العيش بدون هذا المنتج فيما يبدو. المرعب في كل هذا هو ان هناك شعرة بين ما حدث لك فعلًا، وبين ما أُخبرت به كثيرًا، بين معتقداتك التي تؤمن بها، وبين ما يقال لك انه معتقداتك، بين حرية الاختيار وبين وهم الإرادة الحرة.

ما هو الواقع؟ هل ذكرياتك هي ذكرياتك حقًا؟ هل لديك ثوابت، أم أنك قد حُذرت من التفكير بها لأنها ثوابتهم هم؟

اعلان
 
 
مينا ماجد يسى 
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن