نبوءة القاهرة: مسرح النهاية والجحيم في روايتي “عطارد” و”استخدام الحياة”
 
 

كان يمكن للإسكندرية، استكمالًا لدورها تحت الحكم الروماني، أن تظل عاصمة لمصر حتى بعد الحكم الإسلامي، فقد خطَّط عمرو بن العاص للإبقاء عليها عاصمة لولايته بعد غزوها في 641 ميلاديًا، إلا أن خطابًا ورد من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب جاء فيه أن “لا تجعلوا بيني وبينكم ماء، فمتى أردت أن أركب راحلتي حتى أقدم عليكم قدمت”، فغيّر عمرو خطته ليعود من شمال غرب النيل لشرقه، وينشئ مدينة الفسطاط، بجوار حصن بابليون – حي مصر القديمة حاليًا، وهو النواة الأولى لما سيعرف بالقاهرة في ما بعد.

بعد أكثر من 300 عامًا من وجود العرب المسلمين في مصر، توالت عليها فيها أربع دول، نشأت القاهرة. في الأول جاء قائد بأصول أوروبية، وبولاء للمعز لدين الله الفاطمي، اسمه جوهر الصقلي بجيش قوامه 100 ألف جندي، فرض به سيطرته على “مدينة مصر”، بحسب اسمها القديم، دون حرب، ومن الليلة الأولى لوصوله وضع الأساس للمدينة الجديدة “المنصورية”، وضمَّ بها المدن القديمة؛ الفسطاط والعسكر وما تبقى من القطائع، وبنى الجامع الأزهر.

بعد أربعة أعوام كانت المدينة مستعدة لاستقبال الخليفة الفاطمي، الذي انتقل بعائلته ورفات آبائه ودولته من المنصورية –جوار القيروان- إلى منصورية مصر، ليسميها القاهرة، التي تقهر الدنيا. وكانت تلك بداية الدور السياسي التاريخي للقاهرة، فبعدما كانت ولاية تابعة صارت مركزًا لإدارة جديدة للخلافة الإسلامية، تناطح سطوة الخلافة العباسية في بغداد على زعامة الدولة الإسلامية. ومنذ تأسيسها اتسعت القاهرة، حتى صارت القاهرة الكبرى المعروفة حاليًا.

نبوءة الجحيم

تصلح مدينة القاهرة لاستضافة فعاليات عديدة للجحيم، الجحيم اليومي الحالي الممثل في الانتقال بين نقطتين عبر كوبري أكتوبر مثلًا، أو في قاهرة 455 هجريًا، كما يرسمها الكاتب محمد ربيع في روايته “عطارد”، الصادرة عن “دار التنوير”، حيث صخر الخزرجي الشاب ابن الموت، الذي يموت ويُبعث في عام 455، لينذر الناس أنهم في الجحيم خالدين، أنهم “ما كانوا وما عاشوا، أنهم عاشوا على الأمل ولا أمل”. جحيم يضم الحشد المرعوب المسيّر كالموتى يوم الحشر؛ يصرخون أن “اللهم اقبضني”، رجل يلطم وآخر يصرخ أنه يلد، ويرى الواقفون المولود يشبه الكلب، قبل أن يعوي الجميع فيما يشبه الصراخ ولا يدرون أنهم يعوون. تنطق جثة صخر: “أنتم ميتون، كلنا ميتون” ليسأله أحد الواقفين: “كيف متنا ونحن نقف أمامك؟” فيرد أن “كلنا نقف في الجحيم”، كانوا يمشون في شوارع القاهرة الفاطمية، في عهد المستنصر بالله، تحديدًا قبل الشدة المستنصرية التي ضربت القاهرة بعامين، كأنها إرهاصة لما قبل الجحيم الذي ستعيشه القاهرة لسبعة أعوام، وسيقضي على أكثر من نصف السكان، مع مجاعة يأكل فيه الناس الكلاب، تتخللها أعمال السلب والنهب وعموم الفوضى. واشتدت تلك المجاعة حتى لم يجد الناس شيئًا يأكلونه، فأكلوا الميتة والبغال والحمير، وبيع رغيف الخبز الواحد بخمسين دينارًا. وتكونت فرق اصطياد البشر بغرض أكلهم، في جحيم سيغير خريطة القاهرة للأبد.

كان النيل في فيضانه يغطي اليابسة من حوله، وتصل المياه لحدود المنصورية، فأنشأ جوهر الصقلي، ضمن ما أنشأ، قنطرة سُميّت بـ”المقسي”، تقع عند الأزبكية حاليًا، وبعد نحو 300 عام سيتوقف النيل عن الجريان وتنحسر ماؤه لسبع سنوات عجاف، في ما عُرف بـ”الشدة المستنصرية”، وستجف المقسي وينبت بها الزهر والشجر حول البرك لتسمى بـ”بستان المقسي”، ثم “بركة بطن البقرة”، وفي عهد المماليك سيأتي أمير اسمه أزبك ليمهِّدها ويُجري إليها الماء من النيل ويسميها “بركة الأزبكية”. يصعد ويهبط نجم حي الأزبكية، مع المماليك ثم الفرنسيين، ثم يصير مع الخديو إسماعيل حيًا أوروبي العمارة في قلب القاهرة، تسكنه الطبقات العليا من المجتمع، حتى تأتي حركة الضباط في 1952، ويتحول معها الحي وتتغير علاماته، ليصبح مسرح حديقة الأزبكية هو المسرح القومي، وتتحول العتبة الخضراء إلى سوق لكل شيء.

في هذا الميدان سيجلس النقيب أحمد عطارد، في قبة سماوية تحملها أربعة تماثيل أعلى مبنى تيرينج الشهير، سيصطاد الناس من حوله، بموضع يتيح له قتل الناس. ببندقية قنصه وصناديق من الذخيرة سيقتل المارة عبر ميدان العتبة وميدان الأوبرا وكوبري الأزهر. سيقتل كل من يقع تحت منظار بندقيته، البائع والمشتري، السيدة والشابة. سيضع أسماء لضحاياه. سيظن نفسه ملاكًا وشيطانًا يخلص الناس من عذابات جحيمهم، أو يرسلهم لجحيم جديد.

يحدث هذا في قاهرة عام 2025. أصبح ميدان العتبة مسرحًا لقتل عشوائي، لم يتبق من تمثال إبراهيم باشا المميز لميدان الأوبرا غير ثلاث قوائم لحصانه، بعدما نُشرت رأسه وسُرقت أجزاؤه الواحد تلو الآخر. بعد غزو مصر تحت أقدام وتحليق طيران نحو نصف مليون فرد من جيش فرسان مالطا، تتحول القاهرة لديستوبيا حقيقية؛ تخلو جزيرة الزمالك من السكان، في حين تظل القاهرة الغربية -مدينة الجيزة غربي النيل- “محررة وتحت سيطرة المصريين تمامًا”، رغم تعرض بعض مبانيها للهدم بسبب القصف. تصور الرواية تعرض معالم القاهرة في بداية الاحتلال عام 2023 للقصف والتدمير والانهيار التام، وتشمل مبنى جامعة الدول العربية والبنوك والفنادق ودار الأوبرا والوزارات.

في القاهرة المحتلة من فرسان مالطة، وتحديدًا في شرفة برج القاهرة، يصف العقيد أحمد عطارد القاهرة كما يراها بعيني قناص؛ مبنى ماسبيرو رجل بمؤخرة ضخمة وردفين هائلين، وصدر وجذع نحيلين، ومبنى الخارجية رجل أوروبي طويل القامة بعمامة شرقية، ركام فندق هيلتون النيل الذي تهدم مع بداية الاحتلال هو سائح أمريكي سكران سقط ولا يدري شيئًا مما حوله.

رسم ربيع عالم روايته بدقة بالغة. في قاهرة عام 2025 تهدمت الأبنية التقليدية في العاصمة المصرية، في جحيم متخيل/متوقع إذا ما تعرضت مصر لاحتلال بلا مقاومة كما في فصول 2025 في “عطارد”؛ انتحار الناس في الشوارع قفزًا من الجسور والأسطح، القتل والسرقة والاغتصاب، خاصة بعد رحيل فرسان مالطا المحتلين بلا سبب، تقنين الدعارة وتعاطي الناس لمخدر جديد يُصنع من الحشرات اسمه “الكربون”. هذا حفل يأس لا نهائي، القاتل القناص فيه يخلِّص الناس، بقناع بوذا الذي لا يعرف القنص بغيره، وفعل القتل يصير مقدسًا على نحو ما. وحين يتوقف عن القتل، سيبحث الناس عنه، سيهتفون “أين ذهبت؟ عد واضرب”. إنّهم في الجحيم، والموت ينقلهم إما إلى الجنة أو إلى جحيم جديد لا يذكرون فيه جحيمهم السابق.

نبوءة بحر الرمال

هذه قاهرة لا تقهر الدنيا، بل تقهر نفسها وتشهد نهايتها، أو بالأحرى نهاياتها التاريخية، وقد تأتي النهاية على يد جيش محتل، لا خطط استعمارية لديه، أو بكارثة بيئية، تحيل الأخضر للأصفر الصحراوي، كما في رواية “استخدام الحياة- دار التنوير” للكاتب أحمد ناجي، فيما يُعرف بـ”تسونامي الصحراء”، الذي تغرق فيه القاهرة المحدودة ما بين المعادي والجيزة ومدينة نصر وشبرا تحت أطنان من الرمال، وشلالات الرمال المنسابة من كباري المدينة. خليط من الرياح الساخنة والعواصف والرطوبة يدوم لأكثر من أسبوعين بلا انقطاع، تتبعه عدة زلازل وهزات أرضية، ثم زلزال عظيم وتشققات أرضية تبتلع شوارع كاملة وتغير وجه المدينة المألوف كما تغير مجرى النيل، وبدلًا من خلو جزيرة الزمالك من السكان في “عطارد” محمد ربيع، فهي تختفي بالكامل هنا، تتهدم الأهرامات وتتحول لكومات من الأحجار. كل ما يميز الوجه الحضاري والتاريخي للقاهرة ينتهي متحولًا لصحراء، القاهرة الفاطمية والخديوية تصبح خرائب باستمرار العواصف الترابية، وتنتقل العاصمة للقاهرة الجديدة.

كل هذا يحدث في قاهرة مستقبلية، في زمن وسط بين أزمنة الرواية الثلاثة، والتي تدور بكاملها عن القاهرة، ويعلِن خلالها بطل الرواية “بسام بهجت” سخطه تجاه القاهرة الكبرى، زمن يحوي وصفًا للقاهرة الكبرى المعاصرة، بزحامها وسكانها وعمارتها العشوائية، الطريق الدائري والمجتمع المتاخم له، أكوام الزبالة ومزارع الخنازير.

بالتزامن مع لقاءاته العملية كباحث ومعد للأفلام التسجيلية يحضِّر بهجت أفلامًا عن عمارة القاهرة ويتورّط مع “جمعية معماريي المدن”، جماعة سرية أزلية التكوين، تدين بالمعرفة وتبحث في عمارة المدن حول العالم، وتهتم بالقاهرة “أم المدن” بحسب وصف إحدى عضواتها. في هذه الرحلة يتبدى بحث الكاتب في تاريخ عمارة القاهرة.

يحكي إيهاب حسن، أحد الأعضاء البارزين بجمعية معماريي المدن قصة أسطورية، عن قوم من جماعة قابيل ابن آدم، أول من اخترع الزراعة والقتل، وهما أول خطوتين في تأسيس المدينة، أن قافلة من سبعين راكبًا على رأسها نقراوس الجبار بن مصراييم بن مركاييم بن دوابيل بن مرباب بن آدم ظلت سائرة، حتى وصلت للنيل فأعجبها فيضه، واستقرت إلى جواره ومنحوها اسم التلميذ “مصراييم” فصارت مصر. صنعت حضارتها ومدنها، وتبدلت عواصمها عبر التاريخ حتى صارت القاهرة، بكل دورها السياسي والتاريخي في الماضي، أو تغيراتها الجغرافية والديموغرافية المعاصرة، مقالب الزبالة والزحام والتكدس فيها، مركزيتها واستقبالها للملايين يوميًا، فضلًا عن الملايين من سكانها، بعقدهم الاجتماعي الذي يفرض عليهم مزيدًا من الضغط والرقابة المتبادلين بين أفرادهم، وإيذاء بعضهم بعضًا لمجرد أن أحدًا يستطيع ذلك.

حلول أزمة القاهرة كمدينة تأتي على حساب مركزيتها، علاجها يأتي عن طريق التخلص منها. تطرح بابريكا، إحدى عضوات جمعية معماريي المدن، علاجًا للواقع الكابوسي للقاهرة وعشوائيتها وزحامها، هو تحويل مجرى النيل بعيدًا عنها، أي سحب الميزة الأهم لها، وهكذا تذوي المدينة وتفقد رونقها، وتقل كثافتها السكانية لصالح مدن عمرانية جديدة، ما يتيح الوقت والفرصة لعلاج قلب المدينة القديمة، أو اعتباره منتجعًا تاريخيًا مفتوحًا.

تأتي العاصفة “تسونامي الصحراء” متبوعة بالزلازل والتشققات الأرضية، يتحول مجرى النيل، تذوي المدينة لصالح مدينة جديدة. وكما تغيرت القاهرة تغير العالم، وخضع لحكم تحالف اقتصادي يضم 99 شركة، تتحكم بها بابريكا المهيمنة على شركة “معمار”. يتحكم التحالف في كل شي، من الزراعة لصناعة الأدوية والأسلحة والتحكم بشبكة إنترنت عالمية. أصبحت مدينة أكتوبر الجديدة تطل على النيل وعلى بحر رمال برتقالية تمتد وتحمل العديد من المراكب الشراعية المعتمدة في حركتها على حركة الرياح ومد وجذر الرمال. تبتلع رمال ناعمة السيارات وتحمل السفن. تضم مشهدًا سورياليًا كما في لوحة سلفادور دالي “إصرار الذاكرة”، صحراء ممتدة وساعات متدلية ستعرف باسم “صحراء دالي”. لا قاهرة في المستقبل، فقط رمال وصحراء ومعمار جديد، ههنا في المستقبل قاهرة سيريالية يقود فيها القرود المناطيد في بحر الصحراء.

هنا القاهرة، مدينة صالحة للجحيم المتجدد ما بين العصور، مدينة سيريالية ولا تزال تحتمل فرص أكثر للسيريالية وسيناريوهات النهاية، ماتت وولدت مرات عدة وتبشر بنهايات وميلادات أكثر، كما تبدو في كتابة روائيين شابين صدر عملاهما عنها عام 2014، أي بعد ثلاثة أعوام من الثورة، وفي مطلع فترة حكم يعتبرها كثيرون هي الأسوأ في تاريخها.

اعلان
 
 
عبد الله غنيم 
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن