التعارض مع “القيَم” بين المبالغة فيه والتغافل عنه

جاء التقرير عن المسلمين في فرنسا الذي صدر عن معهد مونتين (Institut Montaigne) الفرنسي يوم الإثنين الماضي، بعد إعلان أبرز نتائجه في مجلة أسبوعية تصدر يوم الأحد، ليثير ضجة واسعة تعدّت حدود البلاد. وقد انتهز هذه الفرصة الجديدة أقصى اليمين الفرنسي ومن لفّ لفّه أوروبيًا ليدقّوا نواقيس الخطر ويسعّروا نيران رُهاب الإسلام، أو الإسلاموفوبيا (كما درجت تسمية هذا الرُهاب في اللغات الأوروبية). أما الذي أثار الضجة في التقرير المذكور فهو الاستطلاع الذي استند إليه في دراسة “مسلمي” فرنسا من خلال عيّنة من 1029 شخص ما فوق سن الخمسة عشر، بينهم 15 بالمئة لا يعتبرون أنفسهم مسلمين لكنّ أحد والديهما على الأقل مسلم. هذا ويشكّل مجموع الـ1029 أقل من 6.7 بالمئة من عيّنة إجمالية من حوالي 15 ألف شخص تم استجوابهم لغرض الاستطلاع، بما يعني أن 5.6 بالمئة فقط من القاطنين في فرنسا الذين شملهم الاستطلاع يعرّفون بأنفسهم كمسلمين.

وأكثر ما لفت الأنظار في ذلك التقرير أن 28 بالمئة من “مسلمي” فرنسا بتعريفه، وما يناهز نصفهم بين الذين دون الخمسة وعشرين من العمر، “يتبنّون نظام قيَم يتعارض بوضوح مع قيَم الجمهورية”، بمعنى أن للدين أولوية في تعريفهم لأنفسهم. والـ 28 بالمئة يتألفون من فئتين: فئة تشمل 13 بالمئة من مجمل “المسلمين” يرون أن الدين ليس أمرًا خاصًا بالأفراد (مما يعني منطقيًا أنهم يحبّذون دولة تقوم على الدين) وفئة أخرى تشمل 15 بالمئة يقبلون بأن الدين أمر خاص، لكنهم من أنصار إسلام متشدّد يؤيد ارتداء النساء للنقاب.

وحقيقة الأمر أن الطريقة التي رتّب بها التقرير نتائج الاستطلاع تبدو اعتباطية إلى حدّ كبير، ناهيكم عن مطبّات هذا النوع من الاستطلاعات من حيث تحديد أسئلة الاستجواب وتقييم الردود عليها (أجري الاستطلاع بواسطة الهاتف!) فيعلمنا التقرير أن 40 بالمئة من فئة الـ13 بالمئة يعارضون العلمانية في فرنسا ويعتبرون أن للشريعة أولوية على قوانين الجمهورية، وأن نسبة هؤلاء تناهز النصف في فئة الـ15 بالمئة. وبكلام آخر، يتبيّن لنا منطقيًا أن أكثر من نصف رقم الـ 28 بالمئة الذي أثار رعب المعلّقين، وكأنّ فرنسا على وشك التحوّل إلى ولاية داعشية، إنما يتألف من أناس يقبلون بعلمانية الجمهورية الفرنسية. أي أن 12.7 بالمئة فقط من “مسلمي” فرنسا، الذين يبلغ مجموعهم أقل من 7 بالمئة من إجمالي سكانها (12.7 بالمئة من 6.7 بالمئة تساوي 0.85 بالمئة!)، يعارضون العلمانية فيها، أي أنهم يعارضون فصل الدين عن الدولة الفرنسية، بينما لا يعارضها الباقون ولو اختلف أغلبهم مع بعض القوانين الحديثة مثل حظر التحجّب في المدارس (والحال أن قسمًا هامًا من غير المسلمين، أكانوا ملحدين أم مسيحيين أم يهودًا أم أتباع ديانات أخرى، يعارضون ذلك الحظر أيضًا بوصفه منافيًا للحريات الفردية).

وفي قلب الإثارة المستجدة والمفتعلة في فرنسا، نجد مفهوم التعارض مع “قيَم الجمهورية”. وهو المرادف الفرنسي للتعارض مع “القيَم البريطانية” الذي بنت عليه السيدة تيريزا ماي، عندما كانت وزيرة داخلية بريطانيا قبل أن تصبح رئيسة وزرائها، سياسة الوشاية على المسلمين المتديّنين في المؤسسات العامة بحجة التصدّي للتطرّف العنيف، وهي الخطة المعروفة باسم «بريفنت» (Prevent). وفي الحالتين مفارقة واحدة عظيمة: فحيث يتباهى الفرنسيون والبريطانيون بأن حرية الرأي والمعتقد هي من أبرز قيَمهم، سواء سمّوها قيَمًا “جمهورية” أو “بريطانية” (بالطبع، يصعب على بريطانيي العصر الحديث التباهي بالقيَم “المَلكية”)، يعتبر بعضهم أن ممارسة تلك الحرية فكرًا وفي الحياة اليومية منافٍ للقيَم المذكورة وكأنها كلٌّ لا يتجزّأ، حتى ولو اقترن الأمر بالقبول بالنظام العلماني وباحترام القوانين السارية.

ويذكّرنا هذا التناقض بذلك الفهم الخاص للديمقراطية الذي يجعل بعض الناس يؤيدون الانتخاب الحرّ ما لم يسفر عن نتيجة غير مرغوب بها لديهم، كإصرار الدول الغربية على إجراء انتخابات نيابية جديدة في الضفة الغربية الفلسطينية وقطاع غزة قبل وفاة ياسر عرفات بحجة الحاجة إلى تجديد الشرعية الديمقراطية، ورفضهم الاعتراف بالحكومة التي شكّلتها حركة حماس بعد فوزها بأول انتخابات أجريت بعد وفاته في عام 2006. أما التعارض الصارخ بين جميع الأنظمة العربية والقيَم “الجمهورية” و”البريطانية” على حد سواء، فلا يمنع الدولتين الفرنسية والبريطانية من التهافت على بيعها أفتك الأسلحة، مثبتتين بالتالي أن كافة القيَم تضمحلّ لديهما أمام قيمة المال العليا.

_______________
يُنشر هذا المقال نقلًا عن صحيفة “القدس العربي“، وبالاتفاق مع الكاتب.

اعلان
 
 
جلبير الأشقر 
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن