الكردي جان دوست في روايته “نواقيس روما”
أن تكتب بالعربية في الخمسين
 
 
 

في رواية “نواقيس روما” للكاتب الكردي السوري جان دوست، لا تتوجه حكاية المترجم “عشيق” مباشرة إلى القارئ، بل تُسرد من خلال إملاء عشيق ابن التاجر رشدي الشركسي الأنطاكي سيرة حياته على مدوِّنه الشاب يوسف بن أيبش القادم من بغداد والذي أوقعته المصادفة في طريقه.

فبعد ستة وخمسين عامًا، منذ اتجاه عشيق عام 1708 إلى روما لتعلم الإيطالية واللاتينية على متن باخرة مع ثلاثة آخرين، وكان هو المسلم الوحيد بينهم، وحتى عودته إلى مكان مولده في أنطاكية، لم يعد عشيق قادرًا على الكتابة، فقد تهرأت يداه من أثر الانغماس في ترجمة الكتب طوال فترة عيشه في روما، حيث كان أهم ما ترجمه كتاب “الاعترافات” للقديس أوغسطين.

“نواقيس روما” هي الجزء الثاني لرواية دوست الأولى، “عشيق المترجم”، وربما يكون أحد أفضل عناصر هذا العمل هو عدم احتياج القارئ للعودة للجزء الأول لسد ما يمكن توقعه كفجوات في النص الروائي.

ومن خلال إملاء عشيق سيرته على مدونه، نعرف الكثير عن تفاصيل حياته التي لم تظهر في الجزء الأول من العمل، حيث وقع المترجم في حب فتاة مسيحية بروما، وتزوجها، وبدّل دينه، وأصبح تاجر خمور، وها هو ذا بعد تقدمه في العمر، يقرّر العودة إلى بلاده والبحث عن إستر، الفتاة اليهودية التي كانت حب طفولته.

الكاتب السوري الكردي جان دوست

الكاتب السوري الكردي جان دوست

تفتقد الرواية شيئًا من الزخم. فليس هناك الكثير في حياة عشيق ليُروى، فهو مسلم عثماني ترك أنطاكية وذهب إلى روما، يثير الريبة لكونه مسلمًا، ويؤخذ في بداية العيش بمشهد الكنائس واختلاف الأمكنة، ولكن مع الوقت يتأقلم مع كل هذا ويعتاده.

يشير جان دوست بشيء من المباشرة، كيف أنه ليس هناك حقًا اختلافات فارقة بين البشر في جوهرهم على اختلاف حضاراتهم وأديانهم. لكنه يحكي هذا بإيقاع يبدو بطيئًا، يكاد يكون ثابتًا، بعد بداية ملفتة، حتى نصل إلى نهاية مأخوذة بالحنين إلى الجذور، ويسهل توقعها.

تتنقل “نواقيس روما” بين مكانين ودينين، وهو الأمر الذي يفرض بطبيعته صراعًا يدور داخل الشخصية الرئيسية للعمل، يفرض مأزقًا وحيرة وقلقًا، لكننا لن نجده عند عشيق، الذي لم تفكِّك الرواية عملية انتقاله الذي بدا سهلًا إلى المسيحية، كما أنها لم تفكك كيفية تصالحه مع حضور ثنائية الإسلام والمسيحية في وجدانه وتأقلمه معها. لم نر حيرة قوية ولم نشعر بأرق وجداني. هناك انسيابية رومانتيكية في تسلسل الأحداث أفقدت الحكاية حرارة كانت في حاجة قوية إليها، لتصبح أكثر حدة من ذلك، متسقة مع طبيعة التحولات التي تناقشها.

جنّب ضعف الحدة أن يكون النص إشكاليًا مربكًا؛ أفقد العمل إمكانية أن يكون أكثر ألقًا، خاصة مع ما جلبته هذه “اللا-حدة” من مباشرة في طرح الأفكار واستسلام للسهل من اللغة، بداية من استخدام المفردة، مرورًا بتراكم الأحداث الذي نحى للرتابة، وصولًا للنهاية المتوقعة.

إشكالية التأرجح في اللغة والهوية

“نواقيس روما” هي العمل الثاني الذي ينجزه جان دوست باللغة العربية بعد الجزء الأول منها “عشيق المترجم” (2014)، والتي تتكئ هي الأخرى على تيمة التبادل الثقافي بين الشرق والغرب في بداية القرن الثامن عشر، من خلال مجموعة من الفتيان الذين يصطحبهم راهب ماروني معه إلى إيطاليا ليتعلموا اللغتين اللاتينية والإيطالية في المدرسة المارونية في روما. وقد سبقها جان دوست بأربع روايات بالكردية أشهرها “ميرنامه” والتي ترجمت إلى العربية عام 2011، و رواية “دم على مئذنة” التي ترجمت هي أيضًا وأتيحت بالعربية (2014). بالإضافة لمنجز شعري كردي بدأه منذ أوائل التسعينات.

هذا التحرك بين العربية والكردية عبر الكتابة شعرًا ونثرًا، يظهر معه أيضًا اهتمام جان دوست بالترجمة بين الكردية والعربية والفارسية، حيث نقل من الكردية والفارسية إلى العربية أعمال مثل “مم وزين” وهي أحد أشهر القصص الشعرية في الأدب الكردي.

ولا يبدو أن جان دوست المولود في كوباني (عين العرب) بحلب، ودرس في جامعتها، والمقيم الآن في ألمانيا، قد تخلى تماما عن الكتابة بالكردية، بل يعمل الآن على رواية جديدة بعد آخر أعماله الكردية “مارتين السعيد”، التي تتحدث عن قضية الاغتراب في المكان.

في الوقت نفسه، وعلى مستوى الواقع السياسي، يرى دوست أن الصراخ فعل إيجابي طالما لم نمتلك غيره، وأن الكارثة حقًا هي في السكوت. ويكرر أن جزءًا من مشكلة الكردي السوري أنه يستعير “نظارات” إخوته في الشمال والشرق ليقرأ بها. قد تناسب هذه النظارات عيون إخوته وتفيدهم في القراءة لكنها بلا شك ليست مناسبة لرؤية واضحة له. يرى دوست أن للكردي السوري خصوصية ما يحتاج لحضورها في ذهنه.

ربما يكون قبح الواقع اليوم المعاش هو ما جعله يميل في رواياته، سواء المكتوبة بالعربية أو الكردية، إلى هذا الانشغال الواضح بالتيمة المستندة على البحث التاريخي في بيئات مكانية تتنقل في الغالب بين أوروبا والمناطق الكردية، وربما يكون هذا أحد أشكال مناورة هذا الواقع الذي يزداد سوءًا يومًا تلو الآخر، كما يبدو وكأنه إحياء لأمكنة تتهدّم تحت القصف اليومي؛ إحياء لها ولو على مستوى التخييل بما تحمله من دلالات ثقافية.

وفي خضم هذا، يبدو تأرجح جان دوست بين العربية والكردية، كتابة وترجمة، مربكًا إلى حد كبير. وهو ما ظهر في اللغة العربية عند الكاتب حين شرع في الكتابة الروائية بها وهو مقبل على الخمسين من العمر. هذه مغامرة ملفتة للانتباه قطعًا، لكنها إشكالية بطريقة ما. لأن العربية هنا، وإن كانت جزءًا من مخزونه الفكري والثقافي، إلا إنها على مستوى النص الروائ، بدت مباشرة، تميل للكشف وليس الإخفاء، وهو عكس ما ترتكز عليه فكرة الكتابة الروائية.

ربما يعكس هذا ما قد يكون ارتباكًا في التعددية الهوياتية للكاتب، أو يعكس عودة خشنة ومتأخرة إلى الكتابة بالعربية بعد أن بدأ كتابة الشعر بها في صغره.

قد تكون هذه المباشرة الملحوظة في الأفكار التي تحملها “نواقيس روما” دلالة على أن “العربية” لم تأخذ بعد المساحة التي تحتاجها في كيان الكاتب، لتسمح بإيجاد شيء من الاتزان بين كفتي الميل لإبراز جماليات اللغة من ناحية، والمناورة والإخفاء وتجنب المتوقع على مستوى الحدث الروائي من ناحية أخرى.

اعلان
 
 
محمود حسني 
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن