دروس مستفادة من حبس ناجي، أولها الفردية

تمر هذه اﻷيام ستة أشهر على حبس اﻷديب أحمد ناجي بسبب مقاطع نشرها من روايته “استخدام الحياة” في جريدة أخبار اﻷدب، واتهم على إثرها بـ”خدش الحياء العام”. يُعد ناجي اﻷديب الوحيد المحبوس حاليًا في سجون النظام بسبب أدبه، ولكن على ما يبدو فهذا لا يكفي لتفسير اختلاف قضيته عن سائر القضايا في عيني المتابعين. بهذه المناسبة، وبعد أن هدأت قليلًا حدة البيانات الانفعالية المتضامنة، يمكننا أن نحاول اﻹجابة على سؤال “لماذا يختلف حبس أحمد ناجي عن حبس غيره؟”، ما يقودنا مباشرة إلى سؤال آخر: “لماذا يختلف أحمد ناجي عن غيره؟”

شارك ناجي في ثورة يناير، ولكن لم يمنعه هذا أبدًا من اتخاذ مواقف مستفزة طول الوقت لجموع الثوريين. لم يكن ممن انخرطوا بعنف في الاستقطابات التي اشتعلت في مصر عقب الثورة، وإنما كان يقف على حافة الاستقطاب دائمًا ، يتأمل من الخارج حارقًا دم جميع المستَقطبين. وعلى العموم، فقد وصف ناجي فيما بعد مشاركته في الثورة بـ”العمل الصبياني”.

طول الوقت يغني الكثير من الشعراء والأدباء للفردانية، ولكن ما أن يظهر على أرض الواقع شخص كامل الفردية، متخلص من ضغط الجماعات المتناحرة من حوله، حتى يشعرون بعدم ارتياح. لهذا كره الكثيرون ناجي؛ ﻷن الفردية الكاملة، رغم كونها قيمة محبوبة نظريًا (انظر لكم اﻹعجاب الذي تُنطق به عبارة “لا يشبه إلا نفسه”)، هي في الحقيقة شائكة وموحشة وغير مريحة، حتى لمن يتغنّون بها.

يشكل القطيع دائمًا حماية للشخص؛ يستأنس به ويشعر بالدفء في وجوده. وبالتأكيد يشكّل تهديدًا للسلطة، فالمجموع أقوى من الفرد بطبيعة الحال، ومجموعات متحدة يمكنها تكسير جدار لا يقوى على تكسيره فرد واحد. ولكن ما نريد قوله إن الانتظام في جماعة ربما أيضًا لا يكون عمليًا في جميع اﻷحوال؛ أحيانًا ما يسهّل القطيع سيطرة السلطة على المعارضة. فلأن القطيع يلزمه رأس، يمكن تشتيته بمجرد نزع رأسه.

هذا يقودنا إلى ثورة يناير، والتي كانت عبارة عن مجاميع ضخمة تتكون من أفراد لا يملك كل منها إلا حسابًا على فيسبوك.

في فيلم “حياة براين”، يتبع المؤمنون براين، الذي يتصورونه المسيح الجديد. يؤكد لهم هذا مرارًا وتكرارًا أنه ليس المسيح فلا يصدقونه، فيصرخ فيهم “ليس عليكم أن تتبعوا أي شخص، أنتم أفراد”، فيهتفون بشكل جماعي ومتجانس تصديقًا لكلامه: “نحن أفراد!” يصرخ فيهم “كلكم مختلفون عن بعض”، فيهتفون بشكل جماعي: “نعم. نحن كلنا مختلفون عن بعض!” يبدو لي كثيرًا أن هذا التزاوج بين الفردي والجماعي كان مفتاح ما حدث في الثورة.

على خلاف اﻹخوان المسلمين، الذين هم أكبر جماعة منظمة في تاريخ مصر الحديث، والتي أمكن تشتيتها فقط عبر نزع رأسها، فلم يمكن هذا بعد مع ثوريي يناير. لا يزال اﻷخيرون قادرين على الإلهام وعلى توجيه المجتمع باتجاه رؤاهم.

“التشتيت” ليس اللفظ اﻷدق. فصحيح أن اﻹخوان المسلمين تشتتوا، ولكن الثوريين مشتتون طول الوقت أيضًا. قد يكون اللفظ اﻷدق هو “نزع السحر”. أمكن نزع السحر عن اﻹخوان المسلمين عبر عزل مرسي، ولم يمكن هذا بعد مع الثوريين. الثورة بلا قائد، كان هذا من البداية إلهام الثورة ومقتلها في آن. وﻷنها بلا قائد، وﻷنها عبارة عن مجموعات مختلفة ومتباينة، تتكون من أفراد مختلفين ومتباينين، لا يجمعهم إلا السخط على الوضع القائم، فقد أمكن لهؤلاء اﻷفراد التسلل في المجتمع، أحرارًا ومرنين، ونزع السحر عن النظام العسكري الحاكم وعن اﻹسلاميين في الوقت ذاته.

في هذا كان ناجي ممثلًا لروح الثورة، أو لروح “الإنترنت”، أو لـ”المعاصرة”. واﻷخيران، اﻹنترنت والمعاصرة، كانا حجته الدائمة. يكفي أن يشير ناجي إلى نظرية بأنها قديمة، حتى تبدأ مجموعات من حوله في الانفضاض عنها، تتبعها مجموعات أخرى أوسع، وهكذا.

المؤسف والمعقد أنه كما كان ناجي فردًا كاملًا، فقد أتى التضامن معه فرديًا أيضًا. بعد فورة البيانات القوية لم يعد يشير لناجي إلا أشخاص معدودون. رغم محاولات اﻷدباء لتنظيم حركات تضامن واسعة، على غرار الحركات التي تطالب بالحرية لفلان أو لغيره، إلا أن شيئًا في وعي المتضامنين كان يشير إلى أن الموضوع مختلف قليلًا. كأن ناجي لم يرغب هو نفسه في هذا التضامن. أو كأن التضامن الجماعي هو ضد مشروعه باﻷساس.

هذا هو العيب الأساسي للفردية، كونها غير قادرة على توفير الحماية لصاحبها. قد تحميه فكريًا، ولكنها لن تحمي جسده من الإيذاء على يد السلطة.

***

اﻵن يبدو طبيعيًا أن يُحبس ناجي بسبب كتابته، ولكن هذا ليس إلا بأثر رجعي. قبلها، لم يتخيل أحد من أصدقائه أو المتضامنين معه إمكانية حبسه. ظل ناجي وحده في مكان بعيد عن الصراع السياسي الدائر، وبالتأكيد عن اﻷحكام بالحبس، ﻷنه فرد أولًا ولا يعبر سوى عن وجهات نظر شديدة الفردية، وﻷن في سجالاته شيء شديد الشبه باللعب.

بعد حبسه، خمن الكثيرون أنه حُبس ﻷسباب لا علاقة لها بالبذاءة، وإنما لأسباب سياسية، في محاولة ربما للتقليل من شأن قدرة البذاءة على استفزاز السلطة. ورغم وجاهة النظريات المطروحة، فقد كان التفسير اﻷبسط أكثر إقناعًا؛ ناجي محبوس بسبب الألفاظ البذيئة التي استعملها في كتاباته. رجاء عودوا إلى الفصل المنشور وفكروا، هل يمكن لمصري من الطبقة الوسطى، مصري غير مثقف ولا يؤمن بحرية التعبير، ألا يغضب من ألفاظ كهذه؟ ثم السؤال التالي: ماذا سيفعل شخص كهذا إن وجد نفسه يملك سلطة الحبس، وهو يقرأ الفصل المنشور؟ سيستخدم السلطة التي يمتلكها بطبيعة الحال. وكل الكلام (الدستوري) حول “الحق في التعبير” و”حرية الرأي” و”لماذا يؤخذ الكلام إلى المحكمة”، لن يعدو أن يكون رطانة بالنسبة له، قبيحة أو جميلة، ولكنها في نهاية الأمر رطانة تتحطم أمام هذا الولد الذي يحتاج لإعادة تربية من جديد.

في هذا السياق، لا تمكن اﻹشارة لشخص أحمد ناجي بدون اﻹشارة لسخافاته المتكررة. بدا ناجي طول الوقت كأنه يأخذ موضوع “التساخف” كلعبة مسلية، حتى وإن لم يخل تساخفه من منطق ومن ذكاء في كثير من اﻷحيان. كان قادرًا على تحويل أي رأي جاد لمسخرة بكلمتين، وعلى إحراج الكثيرين ممن بذلوا مجهودًا ضخمًا في صياغة نظرية ضخمة بكلمة واحدة. وفي المقابل، بدأ الكثيرون مع الوقت أيضًا ينمّون مهارة التعامل مع سخافاته، حتى أصبح التساخف والتساخف المضاد لعبة مثيرة بالنسبة لنا، نمّت ذكاءنا وعلمتنا أن الآراء لا ينبغي أن تقال بسبب الوجاهة التي تمنحها لقائلها، ﻷن ناجي (ومعه الإنترنت) قادران على هدم هذه الوجاهة في ثانية.

ما حدث بالضبط هو أن شخصًا أتى من الخارج، بلا أي معرفة بقواعد اللعبة، فمزق أوراقها وحبس لاعبًا فيها. هذا التفسير الأبرز لإحساس الصدمة وعدم التصديق لدى الكثيرين من حبس ناجي، بالأحرى لدى الكثيرين ممن تساخف عليهم ناجي سابقًا؛ هناك شيء ما انتُهك في القواعد؛ ناجي ينتمي للمساحة التي نلعب فيها، لا المساحة التي يلعبون فيها.

هناك بالطبع الكثيرون ممن تساخف عليهم ناجي وهاجموه بعد حبسه، وهذا طبيعي، فأحيانًا يرغب المهزوم في اللعبة بأن تأتي السلطة وتعتقل المنتصر. ولكن اﻷغرب هم هؤلاء الذين لم يحتك بهم ناجي أبدًا، ولم يطب لهم الهجوم عليه إلا بعد حبسه. ربما خافوا من احتمال أن يتساخف عليهم في المستقبل؟ ربما كان وجوده مريبًا بالنسبة لهم، حتى مع عجزهم عن تعريف سبب الريبة هذه؟ ربما أحسوا أنه ابن ثقافة معادية لهم بالضرورة؟ على العموم، كثيرًا ما يجتمع الجبن والنذالة في نفس الشخص، ولا ينبغي أن يشغل المرء باله بهذا النوع من الجبناء اﻷنذال، ﻷنهم في الغالب تعساء أيضًا.

***

بالإضافة لفرديته، فناجي ليس شخصًا واسع التأثير كذلك. لا يظهر على التليفزيون، ولا كتبه تباع بعشرات اﻵلاف، ولا يملك منصبًا حكوميًا عدا عن كونه صحفيًا في جريدة “أخبار الأدب” النخبوية. لا يملك إلا حسابًا على فيسبوك وآخر على تويتر، ومقالات يكتبها كلما عنَّ له.

ربما يكون عميق التأثير، ولكن ليس واسعه، أعني أنه ذلك النوع من اﻷشخاص الذين يتسرب تأثيرهم إلى من حولهم، بفضل طزاجة منطقهم فحسب، وليس بفضل احتلالهم مواقع واسعة التأثير بطبيعتها. هذا أيضًا واحد من أسباب اﻹحساس بالصدمة لدى من يعرفونه، ﻷنه لا يُخشى من تأثيره السياسي الواسع، وﻷنه لم يدع أي دور قيادي.

ركز ناجي سهام سخريته كثيرًا على “المكانة الاجتماعية”، حطم مكانات اجتماعية كثيرة لأناس حوله بمنتهى البساطة، ومع كل هذا، فلم يدعِّ الزهد والصعلكة، على غرار شعراء الستينيات مثلًا، بل كان دائم التغني مثلًا بأهمية الفلوس وبأن يحيا المرء حياة جيدة. بعد رحيل البرادعي لفيينا مع ما أثاره هذا من خذلان في قلوب محبيه، حياه ناجي بحرارة على صفحته الشخصية ﻷنه قرر أخيرًا أن يعيش حياة مريحة كبرنس معه فلوس.

إن كان هناك هدف رئيسي لناجي يؤمن به فهو التقدم، وإن كان لهذا الهدف تكنيك فهو الصراع. كثيرًا ما أخذ يردد في السنوات اﻷخيرة: “الصراع دينامو التقدم”. ويبدو لي أحيانًا أن التقدم كما يعنيه هو أن يفكر البشر من حوله في أشياء لم يفكروا فيها من قبل. وهذا ليس أمرًا سهلًا أبدًا، وإنما يمر عبر طريق طويل من استفزاز العقل والتساخف المستمر، وكان ناجي شديد المهارة في كليهما.

اعلان
 
 
نائل الطوخي 
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن