تقرير فيلم “اشتباك”: كيف يتعامل تليفزيون الدولة مع الفن

لا أعرف المخرج محمد دياب، ولم أقابله من قبل قط، ولم أشاهد فيلم “اشتباك” وإن كنت قرأت كغيري بعض ما كتب عنه. ولكني شاهدت فقرة من برنامج “أنا مصر” الذي تقدمه أماني الخياط على شاشة التليفزيون المصري، وتضمّنت تقريرًا عن المخرج ومسيرته المهنية، وسأكتفي هنا بالتعليق على محتوى التقرير رغم فداحة باقي الفقرة، لأن ضيف المذيعة لمّح في نهاية حديثه إلى فيلمي وقارنه بفيلم “اشتباك”، ولا رغبة عندي في شخصنة الموضوع.

كتبت هذا التعليق بعد حديث طويل مع أحد أفراد عائلتي اكتشفت خلاله أن ما أغضبني وأغضب عددًا كبيرًا من الأصدقاء من التقرير ربما يكون غير واضح للناس (مش عارف إزاي!)

بعد أن شكرتْ المذيعة أماني الخياط زميلها محمد حكيم، على ما وصفته بأنه أجمل تقرير صنع في حلقات برنامجها “أنا مصر”، توجهت بسؤال للمخرجين الشباب: “هو إمتى الجماعة السينمائية بتقبل لحد مش خريج معهد السينما ياخد هذه الفرصة؟”

لا أستطيع الحديث باسم الجماعة السينمائية، والحقيقة أني لا أعرف بالتحديد ما المقصود بهذه الجماعة، وكذلك لا أعرف كيف لطرف آخر غير صنّاع الفيلم وإدارة “مهرجان كان” أن يملك عمليًا حق الرفض أو القبول. إذا كانت المذيعة تسأل عن القبول والرفض المعنويين باعتبارهما أضعف الإيمان، فأنا أستطيع الحديث عن نفسي باعتباري خريج معهد السينما، ولأنني، للأسف وللمفارقة، لا أزال أُصنّف كمخرج شاب، رغم تجاوزي الأربعين ببضعة سنوات، وإجابتي على سؤالها هي: “نعم أقبل وبكل سرور، لأني ببساطة لا أري دراسة السينما الأكاديمية الطريق الوحيد لصناعة الأفلام”. لا أعرف مكانًا آخر في العالم يربط الحق في صناعة الأفلام بدراسة السينما في معهد محدد، ويستنكر مجيء مخرج من خارجه. والحقيقة أن معظم المخرجين الذين تعجبني أعمالهم في مصر والخارج لم يدرسوا في معهد السينما.

شاهدت الكثير من التقارير الصحفية والتلفزيونية غير المهنية، ليس فقط في بلادنا ولكن في جميع أنحاء العالم، غير أن هذا التقرير حالة نادرة من انعدام المهنية والمجاهرة بذلك عيانًا بيانًا، وهو ما يعكس حالة تردٍ مخيفة تهدد كل شيء حولنا، بما في ذلك صانعيه. لا يتعرض التقرير، ولا المذيعة ولا ضيفها على التليفون، لتحليل محتوى الفيلم ويبدو جليًا أنهم لم يروه، فلم يخبرنا أي منهم بعكس ذلك، ولكنهم مع ذلك يسمحون لأنفسهم بالحكم على فيلم واستبطان دوافعه. رعب حقيقي أن يرسّخ تلفزيون الدولة للجهل وأن تُنصب محاكم لصناع الأفلام من أشخاص لم يشاهدوها، وأن يمر كل ذلك بدون حساب أو وقفة أو حتى تصريح من النقابة أو “الجماعة السينمائية” التي تسأل عنها المذيعة.

على خلفية موسيقية رديئة توحي بأن التقرير يكشف سرًا خطيرًا يخبرنا التقرير أن محمد دياب سافر لدراسة السينما في أكاديمية نيويورك عام ٢٠٠٥ “بشكل مفاجئ”، ويقولها التقرير في سياق اتهام المخرج في الجملة السابقة بأنه من “نشطاء السبوبة والتمويل”. لم أفهم ما علاقة سفره بذلك كما لم أفهم من فاجأه هذا السفر.  هل أن كاتب التقرير مثلًا من أسرة محمد دياب، وضايقه أن المخرج لم يخبره قبل سفره؟ وماهي المفاجأة في قرار شاب يهوى السينما بالسفر إلى أهم بلد يصنع سينما في العالم، ليدرسها ثم يعود ويصبح مخرجًا؟ وبما أن هذا الشاب اجتهد ودرس، لماذا نستعدي عليه هذه “الجماعة السينمائية” ونتساءل عن حقه في الفرصة؟ ماذا يعرف صنّاع البرنامج عن معهد السينما في مصر وأكاديمية نيويورك، ليعتبروا أن الثانية لا تؤهل الدارس فيها لإخراج فيلم يشارك في مهرجان كان؟

يعدد التقرير أربعة أفلام كتب لها محمد دياب السيناريو “أحلام حقيقية، الجزيرة، ألف مبروك، وبدل فاقد” وكلها أفلام حصلت على تصاريح من الرقابة بعرضها جماهيريًا، وعُرضت في دور السينما ومعظم المحطات التليفزيونية، وربما حتى التليفزيون المصري، لكن التقرير يقول إنها تقدم “صورة مشوهة للمجتمع المصري”. بصرف النظر عن رأيي في الرقابة، فمن هو كاتب التقرير أو معد البرنامج آو مقدمته ليقرروا ذلك، إذا كان الفيلم أجيز رقابياً؟

تأتي درة اللا مهنية في التقرير عندما يتحدث عن فيلم “٨٧٦” معتبرًا أنه “قدم مصر على أنها مجتمع متحرش ينتهك المرأة وحقوقها”. بدا لي أن كاتب التقرير لا يسير في الشوارع ولا يقرأ الجرائد، ولا أقارب من النساء لديه، وربما لا يعيش هنا. يطالب تليفزيون الدولة صنّاع الأفلام بعدم الاقتراب من مشكلة ترعب وتهدد أكثر من نصف سكان مصر على اﻷقل، ويعتبر أن الحديث عنها ومناقشتها، في فيلم مجاز رقابيًا من الدولة، يسيء إلى الدولة. علينا إذن الصمت وادعاء أن شوارعنا نظيفة وآمنة وأن النساء لا يتعرضن لأي مضايقات، وأن كل شيء تمام ورائع ويبعث على الأمل والسعادة!

بعد ذلك يجتزئ التقرير مقابلات أجراها محمد دياب على التليفزيون لا يتعدى أيٌ منها العشرة ثوان، مقطوعة عن أي سياق، ومع ذلك يستنطقها بما ليس فيها، فلا توجد كلمة واحدة تسيء لمؤسسات الدولة ولا لوزارة الداخلية، وكان المقطع السلبي الوحيد المجتزأ بشكل منفر ضد ممدوح مرعي، والذي لا يمكن بالتأكيد اختصار مؤسسات الدولة في شخصه.

يتجاوز التقرير ذلك ليستعمينا “بالمعنى الحرفي”، فبينما نرى صورة تقرير صحفي يحمل عنوانًا تمكن قراءته بسهولة يقول فيه المخرج عن الممثل أحمد مالك “فنان رائع لو غلط نحاسبه مش ندبحه”، يندد المعلق بـ “المواقف الغريبة” للمخرج ودعمه لأحمد مالك بعد قصة بالونات الواقي الذكري. بصرف النظر عن رأيي في هذه القصة، لم أفهم ما الغريب في موقف مخرج يتحدث عن ممثل يعمل معه في أحدث أفلامه ويطالب بمعاقبته وليس بذبحه. لم أر في الخبر أي دعم لتصرفات الممثل، ولا حتى مطالبةً بتجاوز الموضوع والعفو عنه. بالعكس، هو يؤكد على ضرورة محاسبته، إذا كان مخطئًا، دون ذبحه، وطبيعي أن يراه فنانًا رائعًا، فقد اختاره للتمثيل في فيلمه.

وبعد أن يخبرنا التقرير أن المخرج عادَى مصر في واقعة مقتل الإيطالي ريجيني، دون أن نعرف كيف فعل ذلك، وما مفهوم كاتب التقرير عن معاداة مصر، يتحول للحديث عن فيلم “اشتباك” ويأخذه إلى محكمة الوطنية مثيرًا تساؤلات عن دوافع الفيلم وأهدافه، دون مناقشة محتواه الفني، وهو ما لم يحدث أيضًا من المذيعة وضيفها بعد التقرير.

أخيرًا، فقد قرأت الكثير من التعليقات التي تهاجم التقرير بدعوى أن الفيلم جيد وأنه مثّل مصر بشكل مشرف في مهرجان كان، وأنا أختلف مع هذا الخطاب أيضًا.

كما سبق وذكرت فأنا لم أشاهد الفيلم، وقد تعلمت عدم الحكم على فيلم قبل رؤيته، لكن في الحقيقة سيكون لديّ نفس الموقف من التقرير، وربما بحدة أكثر، لو كان الفيلم سيئًا، ولو لم يشارك في مهرجان كان. ما يجب أن ندافع عنه جميعًا هو رفض التعامل مع أي عمل فني بهذه الطريقة، بصرف النظر عن مستواه وسياق عرضه.

بقي أن أقول إن رعبي الأكبر هو إحساسي بضرورة شرح هذه البديهيات، لأن هناك من يجهلها أو يتجاهلها.

اعلان
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن