كيف تتشكل “الرجولة” في الشارع

لعل محاولة دراسة أو فهم تفشي اللغة الذكورية في الشأن السياسي العام لن تضيف جديدًا، فالأمر معروف وبيّن، فالمذيع “الفِلاتي” يحب الرئيس “الدكر” كما قال على أسماع العالمين، والمطبلاتية يعجبهم أن المعارضين اﻵن يلبسون “طُرح”، والشباب صاروا “ملعوبًا في أساسهم” وفقًا لكاتبنا “المتوّدك”، إلى آخر تلك المقولات.

ولكن لماذا طغت الذكورية على كل شيء؟ وهل نعرف كيف تشتبك الذكورية مع القيم الأخرى، بما في ذلك الرجولة والصبيانية والدين وحتى الاستهلاكية مثلًا؟ لنتأمل معًا كيف نعيش يوميًا وماهية تجربتنا الجسدية كذكور وكرجال، وكيف تتحرك أجسادنا في الفضاء العام المدني المصري، وذلك باستخدام مثال اعتيادي مألوف، محاولين معًا التمعن في كيفية اختفاء وظهور وطغيان القيم الذكورية بشكل دائم، ومتى وأين تتقدم وتتأخر وتنزوي، في اليوم الواحد بل في الموقف الواحد في حياتنا المصرية دون انتباه منا. قد تبدو بعض المواقف والمقولات صادمة، ولكنها صارت شائعة ولا تخفى على الكثيرين. لنتخيل سويًا يومًا، لا أكثر، من حياة شاب مصري، ولنسمه “عمرو”.

تبدأ الحكاية بعمرو الذي يتجاهل آداب الدور والمساحات العامة، مخترقًا الأجساد القلقة، بسبب قلة السكر في الدم، ليشتري “سندوتشات” الفول من العربة في الصباح، متجاوزًا رجلًا وشابة تواجدا قبله، حاجزًا بجسده الأخيرة عن التقدم. يذهب عمرو إلى عمله، ويقضي وقتًا طويلًا في الطريق، يحاول خلاله، رغم حركته البطيئة، الاستحواذ على المساحات وخلقها و”وضع يده” عليها بدءًا من أمام بيته وانتهاءً بمكان عمله. يجر عمرو جسده إلى العمل ويصل متأخرًا قليلًا، وينفر مسرعًا في فورات مرتبطة بانفعالاته الداخلية، وليس بحركة الناس من حوله. يبقى  ساعات أطول مما يقتضيه إنجاز العمل لينال أجرًا أقل مما يستحق، وفي أوضاع اقتصادية تجبر أسرته كلها على العمل ومساعدته في تسديد قسط شقته البسيطة، حتى يتزوج من خطيبته “أمل”.

اليوم يخرج عمرو من عمله مبكرًا، لأنه “أخد إذن” من مديره المتسلط “الغتت”. في طريق خروجه، يعرج بسرعة على مكتبة زميلته الأربعينية في العمل لدفع شهرية الجمعية التشاركية التي تديرها السيدات. لا تستفز عمرو مقولة سائق التاكسي، “الستات مبتعرفش تِسوق” بسبب السائقة البطيئة نسبيًا أمامهم، رغم أن كل من “كسر” وضيق وخالف قواعد المرور كانوا رجالًا. يسمع كذلك صراخ شرطي مرور منذرًا رجلًا آخر: “هاتعمل فيها راجل؟ هالبَّك مخالفة كمان”.

عمرو الآن يجلس أخيرًا ليرتاح على كرسي بلاستيكي مريح ومتآكل الأطراف، يأكل “سندوتشات كبدة” على الكراسي خارج “القهوة” في قارعة الطريق (وهو ما كان ينافي “المروءة”، أو كمال الرجولة، في عصور ما قبل الحداثة) لأنه تواعد على مقابلة صديقه هناك. يضحك الاثنان ويطلقان سيلًا متقطعًا من السباب والبذاءة الإرادية واللاإرادية، على شاكلة ما يعكر أذاننا جميعًا في الطرقات. يتهكمان على الأشياء ﻷن الضحك يسهّل عليهما المعاناة بعد يوم متعب جسديًا في مكان عمل ممل. يصم عمرو هذا وذلك بالمثلية، أو أنه ابن لامرأة (بالتنكير) -والمقصود أنها ساقطة تبيع شرفها- ويهين صديقه بنتًا محجبة مرت أمامهما بسرعة واثقة، وبما أنه لا يعجبه سلوكها وملامحها فيصفها بالـ “مسترجلة”. يثني على شهامة صديق ثالث قائلًا إنه “راجل” حقًا (والتنكير هنا يفيد التعظيم). في النهاية، يلقي بلفافة الورق التي تغطي “السندوتشات” مع بواقي “الطُرشي” في الشارع دون اكتراث.

رغم أن الدراسات المتخصصة ترى أن الرجولة والذكورة مفهومين تكونا اجتماعيًا، فمن وجهة نظر الثقافة المجتمعية، نشأت الرجولة كفكرة وكمعنى وكتجلٍ متعِقل ومتطور للذكورة البدائية، وقد تقف على النقيض منها أحيانًا. بينما ترتبط الذكورة بالقدرة على القهر والغلبة الجسدية والاستحواذ، وأحيانًا الإيذاء والإهانة الجسدية. فالشهامة والحكمة والثبات على المواقف والحنو على الضعيف والتسامح عند المقدرة، كلها قيم تُعرّف كتمثلات للرجولة. كما يُنظر للرجولة ثقافيًا بوصفها متعلقة في الأساس بالمساحات العامة خارج البيت، أما الترتيب والنظام والحنان والنظافة فتنبع كلها من القيم الأنثوية للأم، ومحلها المساحة المنزلية والأسرية. فيما تهتم الذكورة بالتشديد على دونية المرأة، وتأكيد هذا أينما سنحت الفرصة.

على أي حال، لنكمل حكاية عمرو المتخيلة. يذهب عمرو مفتول العضلات قليلًا، صاحب الكرش “الرجالي” الصغير الذي يشتهر به الشباب في بلادنا، إلى “الجيم” كي يحسن من مظهره الجسدي في عين أمل، والتي سيقابلها الليلة للتشاور حول تشطيب الشقة. عمرو أكثر اهتمامًا بمظهره ولياقته من أبيه. وفيما يبدو نقيضًا لاستخدامه صفة المثلية على “القهوة” كوسيلة للتحقير، يتفاعل عمرو مع زملائه ومدربه في “الجيم” بشكل حميمي، أكثر مما يسمح به لنفسه في مساحات أخرى، دون أي نية جنسية. يقف كثيرًا أمام المرآة فخورًا بتضخم عضلاته، ولا يزال مترددًا حيال استخدام عقار “الستيرويد” لتضخيم عضلاته أكثر. يذهب إلى الحلاق ويجبره بصبره وتدقيقه وسرده للتفصيلات على التفنن، بتكلف شديد، في تهذيب شعر رأسه وذقنه القصير أصلًا، ويطلب عدة خدمات تجميلية رخيصة، نظرًا لرخص العمالة المصرية، مثل استخدام “الشبَّة”، و”الماسكات”، وحمامات الزيت ونتف شعر الوجه بالفتلة، و”السنفرة”. يخرج من الحلاق بوجه أكثر إشراقًا، أقل دهنية، وأشد احمرارًا.

تنبه دراسة عزة شرارة بيضون الميدانية “الرجولة وتغير أحوال النساء”، أن الذكورة مأزومة في عالمنا، فالرجل فقد دور المعيل الوحيد، كما فقد المكتسبات المهنية والسيطرة الكاملة على المجال العامة. تشير الدراسة أيضًا إلى أن الرجال المعاصرين أكثر اهتمامًا بأجسادهم من الماضي، ويتخذونها مجالًا لإبراز ذكورتهم وتقليل شعورهم بالضعف وضآلة الحجم. كما تشير إلى أن أحد أسباب هذا الانحدار، الفجوة بين الرجال اليوم وأقرانهم في الماضي، فعلاقة عمرو بأمل، كما سنرى لاحقًا، هي على العكس من علاقة أم عمرو وأبيه، لكون الأخير المعيل الأساسي، وهذا هو أهم أسباب الأزمة.

يذهب عمرو إلى البيت لاستحمام سريع. يقبل يد أمه، ثم لا يلبث أن يعاملها بعدم احترام في أول نقاش، رغم أنها حملت عنه ملابسه الداخلية المتسخة ووضعتها في الغسالة الكهربائية العجوز. أقسم عمرو من قبل أن يكسر دائرة الإساءة إلى أمه التي بدأها أبوه، ولكنه كثيرًا ما يُخلِف قسمه. يتذكر أنه لولا تضحياتها لما قامت لحياتهم الأسرية قائمة. “ياخد دُش” سريع ليغسل العرق والشعر الناتج عن الحلاقة وتعب النهار عن جسده. يلبس “تي شيرتًا” ضيقًا و”شورت” برمودا.

مع تدفق صوت أذان المغرب في الأفق وانسياله إلى الآذان، عبر مكبرات صوت تفضل الصوت الجهوري وترفع الصدى إلى أقصاه، يذهب عمرو إلى المسجد ليصلي المغرب بملابسه التي لا تليق بقدسية الزاوية، ولكنه يعرج إلى الحمّام أولًا لأنه “محصور”. لن يفاجئ عمرو بتاتًا الفرقُ الشاسعُ بين مستوى نظافة حمام منزله العامر بروائح المنظفات الكيميائية السامة، وحمام المسجد. حمام المسجد الكائن في الحي المتوسط الذي يسكنه، لا يقل قذارة وضجًا بالروائح الكريهة عن أي مسجد آخر حتى في أرقي “الكومبوندات”، رغم أن الإسلام كدين يعلي شأن النظافة، ولكننا كرجال -أقصد كذكور- نتفهم أن علينا تحمل ما هو مقزز وغير لطيف مثل الحمام الرجالي في المسجد، وأن نتجاهله، حتى لو تعارض هذا مع الوظيفة الأساسية لمكانه، وأقصد هنا المسجد. ربما يكون السبب في قلة النظافة أيضًا أننا نسكن في مدينة، يعيش الجزء الأكبر من رجالها من أبناء الطبقة الدنيا يومهم في الشارع، من لحظة استيقاظهم إلى لحظة نومهم، وهو ما يجعل المدينة ومساحتها الخارجية ذكوريتين بامتياز. يقضي عمرو حاجته في “المبولة” واقفًا، ليس جالسًا أو مقرفصًا، وهو أمر مكروه شرعيًا ولكنك تجده الآن في أغلب المساجد. يتوضأ ثم يصلي.

يقترب من جلبة في الشارع ليجد شجارًا حول حالة تحرش بشابة. بسبب “طيبته” المجتمعية ورغبته في “لمّ الدور” يساعد المتحرش على الهرب بمساعدة سيدة خمسينية، ولا يرد على الرجال الذين يحاولون إلقاء اللائمة على الفتاة بسبب ملابسها، على الرغم من كونها محجبة، فقط لأنها تجرأت وواجهت المتحرش في العلن. يخترق ما تبقى من غبار وضوضاء الشجار، متجهًا إلى “الكافيه” ليقابل أمل، وفي الطريق يدوس على منشور إعلاني لعقار “الفياجرا”. يطلب “شيشة” وينتقد خطيبته لأنها منفتحة أكثر من اللازم مع الشباب على “الفيس بوك”. يفرحان معًا بالعلاوة التي حصلت عليها اليوم في عملها. ورغم العلاوة، فالرأسمالية، والتي تحكم شركة الكومبيوتر التي تعمل بها أمل، تتحالف مع البطريركية دائمًا أبدًا، مقررة أن على راتب أمل أن يكون أقل قليلًا من زميلها الرجل، الأقل كفاءة وخبرة. يتجاهلان الحديث عن هذا كيلا يعكرا صفو الجلسة. لا يسمح لها عمرو بطلب “شيشة” خاصة لها: “عيب!” ولكن بعد دقائق يرق قلبه ويسمح لها بـ “نفسين طياري”. يستمتعان كثيرًا بحديثهما القصير ويطلب منها مبلغًا صغيرًا لأنه دفع كل ما تبقى من راتبه في التعاقد على “السيراميك”. تعطيه المبلغ في سرية وتنصرف. يعلم عمرو أن دورها سيكون أساسيًا في اكتفائهما المادي معًا في المستقبل، وأنه من الصعب، رغم رغبته الصادقة، أن يتكفل وحده بمصاريف حياتهما الزوجية بعد سنتين، ولكنه يأمل سرًا أن يسهل عليها أن تتوقف عن العمل و”تتستت” في بيتها.

يذهب مرة أخرى إلى “قهوة بلدي”. يضحك الرجال متحدثين عن أشياء كثيرة، منها حالة أحد معارفهم الذي تركته زوجته بمقتضى قانون الخلع، والذي جاء به الدين، ولكنهم جميعًا يعبرون عن سخطهم تجاهه، رغم كونهم جميعًا متدينين، وبخاصة أحد الرجال المنتمين لتيار ديني متشدد. يرى أحدهم أن السبب في ضياع البلد هو ضياع الفرص، أي ضياع الفرص من بين يدي الرجال، أرباب الأسر، باﻷخص بسبب تكالب النساء، مع فئة دينية تمثل أقلية ويُنظر إليها بوصفها أغنى من اﻷغلبية، بالإضافة إلى جنسية معينة من المهاجرين ظهرت على المشهد مجددًا. تشير مجموعة أخرى من الرجال في “القهوة”  إلى أن النائبة البرلمانية في الدائرة المجاورة لن تنجح لأنها “وسط وحوش”. تصل أحد أصدقاء عمرو مكالمةٌ تفيد تعرض أخيه للضرب والتعذيب، في حالة أخرى من انتهاكات الشرطة التي صارت معهودة للأسف.

نعيش تحت نظام يريد أن يستحوذ على الذكورة، قلبًا وقالبًا، ولعل صراخ الضابط، النقيب إسلام نبيه عبد السلام، معاون قسم بولاق، في حالة تعذيب عماد الكبير الشهيرة، وأمره لعماد أن يصم نفسه بانتفاء الذكورة عنه، خير مثال هنا.

مسؤولية الدولة هنا، وبخاصة كلاعب يملك جميع مفاتيح الوضع الاقتصادي، أمر مركزي. تتعامل الدولة معنا على أساس أنها الشخصية الأمثل والأوحد التي تملك مفاتيح الذكورة والأبوة، ونحن المجتمع “أنثى”، وبالتالي، يكون علينا أن نسمع لها فقط ونطيعها. يذكّرنا مصطفى عبد الله في بحثه الهام عن الأرضيات المتغيرة للذكورة، ضمن كتيب “الذكورة في مصر والعالم العربي” (تحرير هيلين ريزو)، بتفضيل الدولة للمواطن الطائع، أو الخانع أحيانًا، وكيف أن الجماعات الدينية اتخذت “استعادة الرجولة” شعارًا انتخابيًا فعالًا في وجه الليبرالية وقوانين سوازن مبارك “الهدامة”، ومنها الخلع.

عندما تفرض الذكورة نفسها على قيم أخرى، يُفترض أنها أكثر مركزية منها في تركيب الشخصية الإنسانية، فإنها تخرج أسوأ ما في هذه القيم.  فالمتدين الذكوري مثلًا، وكذلك العلماني الذكوري، كلاهما يحولان انتمائهما إلى تطبيق ذكوري. يدخل في “جندرهما” في الشارع.

اعلان
 
 
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن