مرآة الكاتب وحجابه: التخييل الذاتي في المدونات المصرية

منذ عام 2005، أصبح التدوين اتجاهاً مهماً بين الشباب المصري. ومن بين المدونات العديدة المنشورة يومياً على الإنترنت، يبرز بعضها لمزاياها الأدبية المبتكرة ومحتواها الأصيل. وحتى الآن، لم تقتصر الشعبية الكبيرة التي نالها بعض المدونين على مجتمع الإنترنت فقط بل جذبت أيضاً انتباه دور النشر السائدة والمستقلة، ومهدت الطريق لهم في النهاية داخل الوسط الأدبي المصري. بالنسبة لمدونين آخرين، كان التدوين نقطة انطلاق للدخول في مجال السينما والصحافة. وعوضاً عن هذا لا يزال عدد من المدونين نشطين فقط في نطاق شبكة الإنترنت، تحت حجاب عدم الكشف عن هويتهم. وعلى الرغم من تلك الحقيقة، يبدو أن المدونات تجذب اهتمام النقاد بالأساس عند تحويلها إلى شكل قابل للتسليع، مثل الكتب، أو المختارات والمجلات.

بعد 10 سنوات من نشرها لأول مرة، ما تزال هذه النصوص الإنترنتية تثير تساؤلات هامة مثل: كيف يمكن لتدوينة أن تتحول إلى عمل أدبي، أو بعبارة أخرى، ما الذي يجعل هذه التدوينات مقنعة للقراءة؟ ما الذي تسهم فيه هذه النصوص في الإنتاج الأدبي المصري، وتحديداً إنتاج السير الذاتية في مصر؟ هذا المقال هو محاولة للرد على بعض هذه الأسئلة، بناء على أبحاثي على عينة من 40 تدوينة مصرية مكتوبة بين عامي 2005 و2011. هذا التحليل الأدبي توضحه أكثر شهادات كُتاب المدونات الذين التقيت بهم بعد أحداث ثورة 25 يناير.

في عام 2008، أثار نجاح سلسلة كتب المدونات الأعلى مبيعاً التي نشرتها دار الشروق وكتبتها ثلاث مدوِنات مصريات (“عايزة أتجوز” لغادة عبد العال، “أرز باللبن لشخصين” لرحاب بسام، “أما هذه فرقصتي أنا” لغادة محمد محمود)، جدلاً في مصر حول الطبيعة الأدبية للمدوَنات. ففي الوقت الذي وصفها فيه بعض النقاد بـ”الأدب الجديد”، متبنين مصطلحات مثل “المدونات الأدبية” و “أدب المدونة”، حذر آخرون من أن المدونات ستفسد القيمة الأدبية. استُخدمت مصطلحات من قبيل “أدب الشباب”، أو “أدب الكلينكس”.. إلخ، من باب الإساءة، للتلميح إلى الطبيعة الخفيفة لهذه المنشورات، وكذلك لغتها غير الفصيحة وطبيعة محتواها التافه. واستخدم آخرون تصنيفات أخرى مثل “اليوميات”، “الخواطر”، أو “القصص القصيرة”، في محاولة لإعادة التدوين إلى الأنواع الأدبية العربية المطبوعة.

التخييل الذاتي، أو الـ Autofiction، هو مصطلح ترجمه إلى العربية الكاتب والناقد المغربي محمد برادة في وصفه لروايته “مثل صيف لن يتكرر” (1999). من وجهة نظري، قد يساعدنا مفهوم “التخييل الذاتي”، على فهم المتعة الأدبية الكامنة في قراءة المدونات، وبالتالي إدراك قيمتها الفنية. صِيغَ هذا المصطلح في سبعينيات القرن الماضي من قبل الناقد والكاتب الفرنسي سيرج دوبروفسكيٍ في التعريف بروايته Fils (الابن – 1977). واتسع المصطلح في وقت لاحق ليصبح تعريفاً لاتجاه أدبي عالمي جديد، جربه مؤلفون مثل ميشيل ويلبيك، وجوناثان سفران فرو، والحائز على جائزة نوبل عام 2014 باتريك موديانو، ويعني أن تُكتب الروايات بضمير المتكلم (أو الغائب) وأن يحمل البطل الرئيسي فيها اسم المؤلف. لذا، ترتكز تلك الأعمال على القراءة المزدوجة: حيث يمكن قراءتها كسيرة ذاتية ورواية معاً. في روايات التخييل الذاتي هذه، يمتاز بناء الهوية باتجاهين رئيسيين: من ناحية، هناك سعي قوي من أجل الحقيقة، يكمن في نطاق استكشاف وكشف مشاعر الفرد الحقيقية، وليس في دقة الوقائع. ومن ناحية أخرى، ثمة موضوع واحد لافت للنظر ومكرر وهو الميل لتخيل الذات داخل حياتها الخاصة، أو في المستقبل، ونزعتها لتخيل الأشياء.

هذه النزعة المزدوجة لكشف وتخييل الذات وجدت على شبكة الإنترنت أرضاً خصبة للتطور. تقول الباحثة الأمريكية فيفيان سرفاتي في دراستها عن المدونات الأمريكية (2004) إن الكمبيوتر يعمل معاً كـ “حجاب” و”مرآة”. كحجاب، لأنه يوفر الحماية من نظرات الآخرين؛ ولذلك فهو يسمح للمدون بالكشف عن الأفكار الحميمة والمشاعر والعواطف. ومن ناحية أخرى، فالشاشة هي الأخرى مرآة أيضاً، فضاء رمزي يمكن أن تُعرض فيه الأحلام والأوهام، لتصبح المدونة وسيلة للوصول إلى ما وراء حدود الحياة اليومية المعتادة، وأبعد من الناس الذين تربطهم بالواحد علاقات يومية، فقط لإظهار أو التأكيد على أجزاء معينة من جسده/ها أو تخيل نفسه/ها في أشكال جسدية مختلفة.

وبالتالي، فإن المتعة الرئيسية لقراءة المدونة، وكذلك الجودة الأدبية لبعض المدونات، يكمنان، إلى جانب عنصر الثقافة المعتاد، في ذلك المزج غير المدرك بين المتخيَل والحقيقي في السرد. هذا التخبط والارتباك هو ما يدفع القارئ إلى القيام بدور فعال مع السرد للاستفسار عما إذا كان هذا الشخص المستتر وراء الشاشة يتوافق مع شخصية المؤلف الحقيقية. وفيما يلي، سأقدم بعض الأمثلة المستمدة من المدونات مصرية، التي تسلط الضوء على كيفية قيام المدونين باتفاق التخييل الذاتي وكيفية تفاعل القراء في قسم التعليقات معهم.

أمثلة التخييل الذاتي في المدونات المصرية

عادة ما تُقرأ المدونات كسرديات صادقة وحقيقية عن الذات. وفي الواقع، فقد عرّف المدون البراء أشرف، الذي رحل مؤخراً عن عالمنا في سن مبكرة، مجتمع التدوين المصري بأنه “جيل من الشباب يجمعهم الإنترنت والتدوين، ويساهمون جميعاً من أجل بقاء فكرة (البوح) و(الكلام)” (29 يناير 2007). ومع ذلك، فإنهم في استكشافهم لذواتهم الداخلية يتخيلون هوياتهم بطرق كثيرة ومبتكرة، من أجل إرباك توقعات القارئ وإشراكه في مباراة ساخنة من التأويلات.

أحد طرق تخييل الذات على المدونة هي اعتماد اسم مستعار. أسماء وهمية يمكن استخدامها ليس فقط من أجل السلامة الشخصية، كما يُعتقد أحياناً كثيرة، ولكن أيضا لتسليط الضوء على جوانب من شخصية الفرد. على سبيل المثال، فعند بدء مدونتهوسع خيالك” اعتمد الكاتب أحمد ناجي اسم “إبليس”. وهذا الجانب الشيطاني مؤكد في كتاباته، فهو غالباً ما يكسر التابوهات ولا يتردد في تحدي السلطات الدينية والسياسية. وهو ما يؤديه في علاقته مع القراء عند استخدامه للغة، تنطوي على كلمات بذيئة وعبارات مبتذلة. ومع مرور الوقت، تخلى المدون عن لقبه ثم ضم مدونته إلى موقعه الإليكتروني. ومع ذلك، ما تزال شخصيته الشيطانية تكمن في إغراء القراء بـ “توسيع خيالهم” وجرّهم إلى عالم مسكون بسفن الفضاء والحيتان، يجلس فيه جنباً إلى جنب مع جوني كاش، وتروتسكي، ونجوم السينما المصرية سامية جمال، ليلى مراد وسعيد أبو بكر. يستخدم ناجي المدونة لتحدي حالة الرواية الواقعية في الأدب العربي، لاتجاهها نحو الأيديولوجي والوعظي. مستلهماً الكاتب الأرجنتيني خوليو كورتازار، وعلى وجه الخصوص روايته “لعبة الحجلة”، خلق ناجي نصاً أدبياً عرضياً قابلاً للتوسع ويتطلب مشاركة فعالة من جانب القارئ في التنقل بين شظايا هوية المؤلف المتناثرة الزائلة، واستشراف المعنى من وراء توليفة من الروابط والفيديوهات والصور. يستحيل في هذه النصوص، إدراك أين ينتهي الواقع ويبدأ الخيال. ورداً على قارئ يستفسر عن طبيعة النص وعلاقته بالكتابة الروائية، يقول إبليس:
“دى أولا مش رواية يا عم أبو جهل ولا قصة قصيرة، دى اسمها تدوينة ودا فن تانى خالص لسه بيتشكل. التدوينة هى نص ذاتى في المقام الاول يعنى أنا هنا بكتب هلوساتى الشخصية”. (8 سبتمبر 2007).

يُخيّل المدونون أيضاً هويتهم من خلال تكرار العناصر البصرية، وتجريب اللافتات، والصور الرمزية والجمع بين الكتابة والصوت والعناصر البصرية. في مدونتها تناتيف ماعت، تصور منى سيف نفسها كماعت الحديثة، إلهة التوازن والحقيقة عند المصريين القدماء. من خلال التدوين، تستهدف منى الحديث عن مشاعرها الخاصة وإحباطاتها، والتواصل مع دائرة من نظرائها الذين يشاركونها إرادتها في تغيير الوضع السياسي الراهن. باعتبارها إلهة الحقيقة، لا تتردد ماعت في وصف تجارب شخصية لها مع التحرش الجنسي ووحشية الشرطة. كما تكتب:

“لازم نكسر جدار الصمت اللى حطيناه، و نحكى عن اللى بيحصلنا فعلا، عن ازاى بنشيل هم كل يوم نمشيه فى الشارع، أو نركب مواصلة عامة. جايز لما الناس يشوفوا بعينينا قبح اللى بيحصلنا، يبقى ما فيش قدامهم حل غير انهم يصدقوا”.

الغريب، أن شقيقها علاء عبد الفتاح يكتب لها على مدونتها، دون أن يعرف أن ماعت هي أخته: “أنا أحيي شجاعتكِ”. ترد ماعت، “أنت لا تتخيل كم يشجعني تعليقك” (10/10/2006).

وفي الوقت نفسه، تسمح لها مدونتها باللجوء إلى عالم متخيل، كوسيلة للهروب من الواقع القاسي المحيط بها. وها هي تنبه القراء بأن ما تكتبه ما هو إلا “تناتيف صغيرة نسجها خيالى”.

تتخيل منى نفسها امرأة حرة متقدة، ترسم نفسها (بالكلمات والرسوم معاً) بشعر مجعد هائش، كعلامة على الأنوثة والتمرد. في تدوينات أخرى، تلجأ لعالم الطفولة، لحالة متخيلة من الحلم والبراءة، “كرد فعل على الخوف الذي يعشش فيها”، كما كتبت بعد حبس أخيها في عام 2007. تعقد كتاباتها المسافة بين الشخصي والسياسي. الجراح التي تحملها منى على جسدها شخصية، ولكنها في الوقت نفسه تشير إلى شعور عام بالضيق يؤثر على المجتمع بأسره. ليس ثمة مناص شخصي من الضيق، سوى بالتنديد، والكلام عن عالم أفضل وتخيله من خلال الكلمات والألوان.

خلافاً لمنى سيف وأحمد ناجي، يوقع مدونون آخرون تدويناتهم بأسمائهم الحقيقية، لكنهم ينبهون القارئ أن ما يقرأه لا يمت بصلة لحياة المؤلف. نجد أمثلة عدة على ذلك في مدونة “وأنا مالي“، التي يكتبها ​​البراء أشرف. فعلى سبيل المثال، في تدوينة أبي يحب أمي، التي يروي البراء فيها قصة حب بين عضو من جماعة الإخوان المسلمين وامرأة شابة مثقفة تغير حياتها لاستيعاب معايير زوجها الأخلاقية، ينبّه البراء القراء إلى أن هذه “قصة غير حقيقية”. ومع ذلك، فإن بعض القراء الذين نسبوها لحياته الخاصة، أخذوا ينتقدونه لتشويه سمعة عائلته أمام العامة. وأشار آخرون إلى أن القصة ليست واقعية، إذ كيف يمكن لطفل صغير ألا يميز أمه عندما ترتدي النقاب. في تدوينات أخرى، يعرض البراء شخصية “مطاوع” معلناً: “هؤلاء الذين يعرفون مطاوع شخصياً ممنوعون من القراءة”، وكأن مطاوع ربما يكون المؤلف نفسه. يبدو أن حالة التخييل في هذه التدوينات تعود إلى كونها وسيلة لحماية التقدير الاجتماعي للمؤلف. من خلال تخييل هويته، يتمكن البراء من كشف أحداث خاصة جداً حدثت في حياته، والتعبير عن مشاعره والسخرية من جسده الثقيل السمين، وهو الموضوع الذي وجد متسعاً للتعبير عنه على غلاف وعنوان كتابه “البدين” الذي استمده من المدونة.

في حالات أخرى، يستغل المدونون طبيعة التخييل الذاتي الهجينة للمدونة لإشراك القارئ في لعبة نشطة يعرفونها بـ “الاشتغالة”. وهي تتألف من رواية قصة خيالية ولكنها تبدو، تمويهاً، كاعتراف حقيقي، للسخرية من تلصص القارئ. مثال على ذلك يمكن رؤيته في مدونة نائل الطوخي. فعلى لافتة المدونة العلوية نجد صورة بينوكيو، وهو ما قد يوحي بأن المدونة مجرد كذب محض. في تدوينة بعنوان “لهذه الأسباب طلقتُ ليلى” (28/12/2007)، يطلب المؤلف من القراء المشورة بكيفية التعامل مع زوجته ليلى التي لا تطيعه وترفض الوفاء بحقوق الزوجية ولا تكف عن الشكوى من ضرب زوجها لها. بعض القراء يتفهمون حزنه ويدعمون رأيه، في حين يخبره آخرون بأنه “مريض نفسياً” ويقترحون عليه زيارة الطبيب. بينما يفهم آخرون اللعبة ويستمرون معه على منوالها. في الواقع، يمكننا أن نرى في هذه التدوينة رواية ساخرة تهكمية عن الذكورية في المجتمع المصري. فضلاً عن السخرية الموجهة إلى تلصص القراء. ويلعب المؤلف على حقيقة أن كثيراً من القراء سيأخذون هذه القصة في ظاهرها وينسبونها لحياته الشخصية – وهذا ما حدث بالضبط. يمكن العثور على أمثلة مشابهة لهذه اللعبة في مدونة “وسع خيالك” وفي مدونة “الربيع” لمحمد ربيع، مما يعد علامة على استشراء “الاشتغالة” بشكل فيروسي في المدونات المصرية.

مع مرور السنين، انتهى بعض المدونين بالكشف عن هويتهم الحقيقية، خاصة بعد أن وصل الأمر لحد التشهير بهم في المجال الثقافي، إلا أنهم ما زالوا يلعبون لعبة التخييل الذاتي. وهناك مدونون آخرون يفضلون الحفاظ سراً على هويتهم، لأسباب أمنية. تماماً كما هو الحال مع إمرأة مثلية التي تكتب في مدونتها يوميات إمرأة مثلية قطع أدبية عن تجربتها الحياتية كمثلية في المجتمع المصري.

بشكل عام، يمكن القول إن هذه المدونات ينبغي تصنيفها بوصفها سرديات تفاعلية من التخييل الذاتي، فالمدونون يرون ما هو ذاتي من خلال تعتيم المساحة بين الواقع والخيال، ونثر قطع من هوية المدون بين الوصلات، وعناصر الوسائط المتعددة وتعليق القارئ. استخدم المدونون طبيعة المدونة الهجينة، الوقتية والمسلسلة متعددة الوسائط، للكشف عن قصص حيواتهم الشخصية، وتوسيع حدود ما يمكن عرضه علناً ​​في المجتمع المصري. وبالتالي، لا بد من قراءة مدونات التخييل الذاتي كوسيلة للتعبير الأدبي عن الشباب المهمش الذي يتبنى وسائل جديدة للتعبير عن الذات ولغة تخريبية لإعادة تشكيل هوياتهم والتواصل مع بعضهم البعض من أجل التعبير عن معارضتهم للسلطات السياسية والثقافية والدينية.

اتجاهات كتابة الذات في الأدب العربي

تُظهر الأمثلة الموضحة حتى الآن أن المدونات يجب أن تُقرأ كسرديات ’جديدة‘ للذات، كتجربة للكُتاب مع وسيلة ’جديدة‘ لكتابة ونشر قصص حياتهم. ومع هذا، فإن هذا النوع من السير الذاتية له جذوره القديمة في الثقافة العربية. ويمكن العثور على آثاره المبكرة بالفعل التي تعود للقرن الـ 19، إلى أن وصل هذا النوع ذروته في مصر في العقد الأولى من القرن الـ 21 وفي كتابات جيل التسعينيات. لذلك، وفي ضوء تلك السير الذاتية الأدبية السابقة، كيف تبتكر المدونات طريقة كتابة الذات في الأدب العربي؟

أولا وقبل كل شيء، من المهم ملاحظة أن الخلط أو التهجين سمة من السمات الرئيسية لكتابة السيرة الذاتية العربية منذ بدأ هذا النوع في الازدهار، في نهاية القرن الـ 19. الروايات عن الذات هي جزء لا يتجزأ من أدب الرحلات والمقالات والروايات والسير الذاتية. يمكن للواحد التفكير في عمل كبير مثل “ﺍﻟﺴﺎﻕ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺴﺎﻕ ﰲ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺍﻟﻔﺎﺭﻳﺎﻕ” للكاتب اللبناني أحمد فارس الشدياق، المنشور في عام 1855. ففي هذا العمل يقدم الشدياق شخصية الفارياق (في خلط واضح بين اسم فارس والشدياق) التي تعمل كمعادل لغروره ونرجسيته الشخصية. ويتغير السرد من ضمير المتكلم والغائب، وفي بعض المقاطع يخاطب الشدياق الفارياق مباشرة. هنا، تُضَمن رواية السيرة الذاتية بالنقد الاجتماعي والأدبي واللغوي والاستطراد الشعري. وفي النص، يستحيل استشفاف ما إذا كان الشدياق يتحدث عن حياته الخاصة أم أنه منغمس في خيال محض. ولكن بصرف النظر عن عمل الشدياق، الذي ما يزال عملاً ملغزاً من حيث التصنيف الأدبي، يمكننا رؤية أن كتابة الذات في الأدب العربي كثيراً ما كانت نتيجة لخلط الرواية مع السيرة الذاتية. ففي رواية “زينب” (1913)، تأليف محمد حسين هيكل، يشترك حامد، الشخصية الرئيسية، في العديد من الصفات مع المؤلف. ومع هذا، يقدمها المؤلف بوصفها رواية وينشرها تحت اسم مستعار “مصري فلاح”، ليس فقط لأن الرواية لم تكن تعتبر فناً محترماً في ذلك الوقت، ولكن أيضاً لأن المؤلف لا يجرؤ على أن ينسب مشاعر الحب والعواطف لحياته الخاصة. وبالمثل، يؤكد الكاتب إبراهيم المازني في مقدمة روايته “إبراهيم الكاتب” (1931)، على أن شخصية روايته وهمية، ويسرد ملامح بطله التي هي عكس شخصيته تماماً. غير أن القراء سيعرفون على الفور أن إبراهيم ما هو إلا شخصية المؤلف نفسه. حتى السيرة الذاتية الروائية لطه حسين “الأيام” (الصادرة أعوام 1929-1939-1973)، قُدمت لأول مرة من قبل المؤلف بوصفها رواية، مروية بضمير الغائب. وفقط عند نشر المجلد الثالث عام 1973، يعترف المؤلف أن هذه الرواية هي سيرته الذاتية. بشكل عام، يمكننا القول إن الاتجاه الرئيسي في النصف الأول من القرن العشرين كان تقديم السير الذاتية على هذا النحو، إذا كانت تروي قصة حياة ناجحة. قدم طه حسين في نهاية المطاف “الأيام” كسيرة ذاتية لأنها تحكي عن صبي صغير من الريف يسعى جاهداً ضد الفقر والعمى، ويعمل على تأكيد نفسه في المجتمع كمثقف. المزيد من القضايا الخاصة، مثل الحب أو الفشل الشخصي، كانت تُروى عن طريق التخييل. ويمكن رؤية هذا اللجوء إلى مأوى التخييل باعتباره حالة سابقة واضحة للعيان لاستراتيجيات السرد (أسماء مستعارة، الراوي الواعي بذاته، إلخ) المستخدمة من قبل المدونين في مدونات التخييل الذاتي. المدونة، مثل الرواية من قبل، وسيلة لاستكشاف الذوات الحدية والكشف والتحقق منها في المجال العام. ومع هذا، فإن المدونة، مع اتفاق التخييل الذاتي المزدوج، تطمس كذلك الحدود بين السيرة الذاتية والرواية. لأنها تتيح لعبة “الآن أنت تراني. الآن أنت لا تراني”، لعبة التشكيك التي تسمح باحتمالية التورية والبوح ببعض القضايا التي لا تعتبر مشروعة في المجال العام.

طفرة جديدة في كتابة السيرة الذاتية يمكن العثور عليها في الأعمال الأدبية التي أنتجها جيل التسعينيات من الكُتاب المصريين. يمكن قراءة أعمال سمية رمضان في “أوراق النرجس” (2001) ومي التلمساني في “دنيا زاد” (1997) ونورا أمين في “قميص وردي فارغ” (1997) ومصطفى ذكري في “هراء متاهة قوطية” (1997)، كسيَر ذاتية مُخيلة تُحكي فيها الحياة في شكل شذرات، من خلال خرق الترتيب الزمني، وطمس المساحة بين الخيال والواقع. هذا النمط من كتابة الحياة مهد الطريق بالتأكيد لمدونات التخييل الذاتي المصرية. ولقد استبق الكُتاب المذكورون سلفاً أيضاً المدونين في لجوئهم إلى النشر الخاص بهدف الوصول إلى المجال الثقافي والهرب من السيطرة الثقافية للدولة، مما مهد الطريق أمام المدونين للنشر لأنفسهم على شبكة الإنترنت. غير أن الإنترنت، مقارنة بالنشر الخاص، يعطي حرية أكبر بكثير من حيث إمكانية وصول القراء للنص والمحتوى والجماليات.

في الواقع، خلقت المدونات، أولاً وقبل كل شيء، منافذ للجهات الفاعلة غير المعروفة تماماً في الأوساط الأدبية. فالمدونون لا يكتبون حياتهم لأنهم “مشاهير”، بل إنهم صاروا “مشاهير” من خلال كتابة حياتهم.

ثانيا، تتيح المدونة حرية أكبر من حيث الخيارات الأسلوبية. حقيقة أن النصوص منشورة ذاتياً وغير محررة من قبل سلطة لغوية، يسمح للمدونين بتجريب لغة الشباب، الأخطاء النحوية والإملائية، والتعبيرات الدارجة، والكلمات الإنجليزية. وبطبعها طمست هذه المدونات الفجوة بين الفصيح والعامي في الأدب المطبوع. وفي الوقت الحاضر، يُدخل كثير من المؤلفين تعبيرات عامية في رواياتهم، ليس فقط في الحوارات وإنما في السرد أيضاً. وبالإضافة إلى هذا، يكتب المدونون عن أنفسهم مع وجود صور ورموز، وأشرطة فيديو وموسيقى وروابط. وهي عادة ما تكون مجرد عملية نسخ ولصق فقط للعديد من العناصر التي وجدوها على الانترنت، لكنها أيضاً عملية نسخ ولصق تحدد معاني وذواتاً جديدة.

وأخيراً، فإن الشيء الرئيسي المبتكر الذي أدخلته مدونات التخييل الذاتي المصرية هي تحويلها الكتابة عن الحياة لمسعى جماعي. وإذا كان كُتاب التسعينيات قد تباكوا على غياب القارئ، فإن كُتاب التخييل الذاتي الرقمي يغادرون “البرج العاجي” ومعتزل الروح المظلم الذي حبس الكتاب أنفسهم فيه، ليدعوا قراءهم لمشاركتهم في صنع النص. فهم في “تعرّيهم”، ليسوا وحدهم، بل يُدعمون (وغالباً ما يُنتقدون) من قبل مجتمع من القراء والكُتاب. حيث يشارك القراء من خلال تقديم تعليقاتهم على كتابات المدونين، مضيفين روايات تخص حياتهم الخاصة، ويقدمون تلميحات جديدة لتطوير الحبكة.

في الختام، يمكننا القول إنه من خلال التحايل على وسائل الإعلام المطبوعة، التي تقتضي ضمناً آراء الرقابة والأدباء “الأصوليين”، تمكن المدونون من إضافة معانٍ وجماليات جديدة لأدب (السير الذاتية) في العربية. من خلال رفض الوضع الروائي، الذي هو، بالنسبة لهم، تعبير عن الأمة الفاسدة، فقد تطلعوا إلى الإنترنت من أجل خلق أشكال جديدة من التعبير، ولغة كتابة جديدة وذوات جديدة تعبر بشكل أفضل عن الواقع الذي يعيشون فيه. لقد خلطوا بين “الأدبي” و”السياسي” بطرق جديدة مثيرة للاهتمام.

لذا، من أجل تشجيع الابتكار وازدهار نماذج جديدة للكتابة، من المهم الاعتراف بهذه الأشكال التي لا تزال في مستهل الطريق، وحثها على تجريب الوسيط الجديد والأنواع الجديدة المصاحبة له. من المهم أن نجد نظريات وأن نحدد أنماطاً تساعدنا على فهم الأهمية الاجتماعية والجمالية لهذه الأعمال. وهذا باختصار ما حاولت هذه السطور القيام به.

اعلان
 
 
تيريسا بيبِه 
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن