الوفيات داخل السجون.. قتل عمد أم إهمال طبي؟
 
 

أتت وفاة رئيس مجلس شورى الجماعة الإسلامية عصام دربالة، صباح أمس، الأحد، داخل محبسه في سجن طرة، لتعيد إلقاء الضوء على الأوضاع الطبية داخل السجون، وبخاصة أنها الحالة الخامسة خلال الشهرين الماضيين، لسجناء محبوسين احتياطيًا على ذمة قضايا سياسية لم يصدر فيها حكم بعد، كان أحدهم متهمًا بالانتماء لجماعة الإخوان المسلمين، بينما كان الأربعة الآخرون قيادات في الجماعة الإسلامية، وقضى ثلاثة منهم نحبهم خلال عشرة أيام فقط، وقد توفي الخمسة لأسباب صحية تباينت تقديراتها بين زعم وزارة الداخلية أن سبب الوفاة هو حالة السجناء الصحية السيئة قبل دخولهم السجن، واتهامات ذوي السجناء بأن الوفيات حدثت بسبب الإهمال الطبي المتعمد.

وفاة دربالة، الذي كان محبوسًا احتياطيًا في سجن طرة بسبب اتهامه بالانضمام لـ”تحالف دعم الشرعية”، سبقها يوم الأربعاء الماضي وفاة مرجان سالم، وهو أيضًا أحد القياديين بالجماعة الإسلامية، والذي كان مسجونًا في سجن العقرب شديد الحراسة بمجمع طرة، وهو السجن نفسه الذي توفي فيه أيضًا نبيل المغربي، القيادي بالجماعة والمتهم في القضية نفسها مع سالم، وإن كان قد توفي قبل سالم بشهرين. كما توفي القيادي بالجماعة الإسلامية عزت السلاموني داخل سجن ليمان طرة في ١ أغسطس، وفي اليوم نفسه توفي أحمد غزلان، المتهم بالانتماء للإخوان المسلمين، بسجن الأبعادية بدمنهور.

ونشرت صفحة حزب “البناء والتنمية” على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك بيانًا يندد فيه الحزب بما وصفه بـ”اغتيال الدكتور عصام دربالة” عن طريق الإهمال الطبي. وطالب البيان بملاحقة المسؤولين عن ذلك جنائيًا. ونشرت صفحة الحزب تغريدات لعدد من الشخصيات المحسوبة على “تحالف دعم الشرعية” تُرجع الوفاة إلى منع دخول أدوية مرض السكر إلى دربالة منذ أشهر، ورفض السجن محاولات نقله للمستشفى. كانت مصادر طبية قد صرّحت إلى «المصري اليوم»، بأن التقرير الطبي المبدئي لوفاة دربالة يرجع إلى ارتفاع السكر بالدم، والضغط، وأن أطباء السجن وقعوا الكشف الطبي عليه قبل نقله للمستشفى.

الاتهامات نفسها تكررت مع السجناء الأربعة الذي قضوا نحبهم مؤخرًا، ففي كل المرات تم اتهام وزارة الداخلية بالتعنت في السماح بإدخال الأدوية للسجناء ورفض تحويلهم للمستشفى أو بقائهم بها رغم حالتهم الصحية التي تستدعي ذلك- بحسب ذويهم، مما أدى إلى تدهور حالتهم الصحية وتسبب في الوفاة. وهو الأمر نفسه الذي حدث مع إسماعيل فريد، البرلماني السابق وعضو حزب “الحرية والعدالة”، الذي توفي في شهر مارس الماضي داخل محبسه بسبب أزمة قلبية.

كان مركز “النديم” للعلاج والتأهيل النفسي لضحايا العنف والتعذيب، قد أصدر تقريرًا في شهر يونيه الماضي، بعنوان: “كشف حساب”، بمناسبة مرور عام على حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي. وقدم التقرير رصدًا لأحوال السجون، جاء فيه أنه من بين ٢٧٢ حالة وفاة على يد الشرطة خلال العام الأول لحكم السيسي، فإن هناك ٩٧ حالة إهمال طبي، بين سجناء سياسيين وجنائيين، لم تؤدِ كلها إلى الوفاة.

ووثق المركز خلال الأشهر الستة الأولى من العام الجاري، تنوع حالات الإهمال الطبي التي أدت إلى الإصابة بأمراض الكبد والطحال ونزيف وارتشاح في الرئة وأزمات صدرية وأمراض القلب وضمور الأطراف وأمراض الكبد والكلى وانتشار الجرب والانفصال الشبكي والانهيار العصبي والتسمم من أكل السجن والتهاب الزائدة الدودية والتهاب الغدة النكافية والتهاب حاد بالمعدة والرئة والربو الشعبي والتهاب كبدي وصفراء وتوقف العلاج الطبيعي في حالات الكسور والخلع وغيرها من الأمراض والمضاعفات.

هذا الارتفاع في أعداد الوفيات داخل السجون طرح مجددًا السؤال: هل الإهمال الطبي سياسية متعمّدة أم نتيجة لضعف في البنية التحتية لمنظومة الصحّة في السجون؟

ترى سوزان فيّاض- الطبيبة في مركز “النديم”- أن الإجابتين قائمتان، فالاعتقال العشوائي والقبض على أساس الاشتباه وطول فترة الحبس الاحتياطي، تؤدي إلى تكدس الزنازين الضيقة بعدد هائل من السجناء، مما يزيد من فرص انتشار الأمراض، وبخاصة مع تردي منظومة الصحة داخل أماكن الاحتجاز. فضلًا عن اعتماد وزارة الداخلية سياسة “تكدير” للسجناء، سواء عن طريقة عدم السماح بدخول الأدوية لهم و”التعنت” في نقلهم إلى المستشفيات، أو استخدام الاحتجاز في الزنازين “الأكثر قذارة” كوسيلة للتأديب، وهنا “يظهر عنصر التعمّد”- بحسب فيّاض.

كان المجلس القومي لحقوق الإنسان، قد أصدر تقريره السنوي في شهر مايو الماضي، والذي يغطي الفترة من ٣٠ يونيه ٢٠١٣ إلى آخر ديسمبر ٢٠١٤، وجاء فيه أن نسبة التكدس داخل أقسام الشرطة بلغت ٤٠٠٪ وفي السجون وصلت إلى ١٦٠٪. وأفاد التقرير بأن ظاهرة الوفاة داخل أماكن الاحتجاز، كانت قد اختفت لفترة إلا أنها تعود مرة ثانية، وطالب التقرير بإيجاد حل سريع لأزمة التكدس داخل السجون، وأرجع معظم حالات الوفيات إلى الشروط الصحية والمعيشية السيئة في أماكن الاحتجاز، غير أنه لم يستبعد شبهة التعذيب، مشيرًا إلى أنه “لا يوجد ما يثبت أن أى من هؤلاء قد مات نتيجة التعذيب، إلا أنه أيضًا لا يوجد ما يثبت عكس ذلك”.

وشهدت أماكن الاحتجاز، السجون وأقسام الشرطة، خلال الأسابيع الماضية عددًا من حالات الوفاة بين مسجونين سياسيين وجنائيين، كان آخرها اليوم، الاثنين، داخل قسم شرطة ثان الرمل، في الإسكندرية؛ حيث توفي محتجز كان قد تم القبض عليه يوم الجمعة الماضي أثناء مشاركته في مظاهرات تابعة لجماعة الإخوان المسلمين- بحسب “المصري اليوم“- وأكد مفتش الصحة أن وفاته طبيعية.

تُكمل فيّاض قائلة إن مركز “النديم” رصد رفض إدارات السجون، في حالات كثيرة، دخول أدوات نظافة للسجناء كالمبيدات الحشرية وأكياس القمامة، مما يحرم السجناء من إمكانية تنظيف زنازينهم بأنفسهم.

كانت إسراء الطويل، المُعتقلة منذ نحو ٧٠ يومًا على ذمة التحقيقات، قد قالت في رسالة نشرتها صحيفة «الشروق»، إن الزنزانة المحتجزة داخلها في سجن القناطر مساحتها لا تتجاوز ثلاثة أمتار في خمسة أمتار، ومليئة بالدود والصراصير. كما أضافت أن طبيب السجن أصرّ على عدم استكمالها العلاج الطبيعي داخل محبسها، بدعوى أنها مُصابة بعاهة مستديمة لا تستدعي العلاج. وكانت إسراء قد أُصيبت بطلق ناري مما أدى إلى إعاقتها عن المشي لفترة وذلك في إحدى المظاهرات، غير أنها كانت تتلقى علاجًا طبيعيًا قبل حبسها، مما أدى إلى تحسن حالتها. ومنذ توقف العلاج الطبيعي بسبب إلقاء القبض عليها وحالتها في تدهور مستمر- بحسب رواية ذويها.

وقالت أسرة إسراء، إنه عقب نشر رسالتها تعرضت إلى مزيد من التضييق في السجن، والتهديد بنقلها إلى سجن آخر، ومُنعت عنها مياه الشرب المعدنية، وطُلب منها أن تشرب من مياه الصنبور التي تقول إسراء عنها إن “ريحتها مجاري”. وعُرضت إسراء مرة أخرى على الطبيب نفسه، الذي طلب منها رفع ساقها لأعلى، وأخبرها للمرة الثانية أنها مصابة بعاهة مستديمة. وعندها، أخبرته أنها تلقت علاجًا من قبل على يد رئيس قسم العلاج الطبيعي في جامعة أكتوبر، وأن حالتها تحسنت بسبب ذلك. وقالت للطبيب إنه غير قادر على تشخيص حالتها؛ لأنه طبيب عظام وليس مختصًا في المخ والأعصاب، فقال لها: “أنتِ إيه اللي يفهمك في الطب، إرجعي عنبرك؟”- بحسب رواية إسراء.

تعود فيّاض لتضيف أن انتشار القذارة داخل الزنازين وعدم تنظيفها من قِبل إدارة السجن، وكذلك عدم السماح بدخول أدوات النظافة يؤدي إلى انتشار كل أنواع الأمراض الجلدية، بالإضافة إلى التكدس الذي يؤدي لانتشار عدوى الأمراض الصدرية. كما أن قِلة المياه داخل السجون وعدم نظافتها يؤديان إلى الإصابة بالأمراض الكلوية والكبدية، وفي حالة أن المسجون كان مصابًا بهذه الأمراض من قبل فإن حالته تتدهور بشكل كبير، مما قد يؤدي إلى الإصابة بالفشل الكلوي.

ويأتي التعنت في تلقي العلاج- بحسب فيّاض، ليُكمل هذه الدائرة. فهناك دائمًا أسباب غير واضحة لرفض دخول الأدوية أو السماح بتلقي العلاج في مستشفيات السجون أو خارجها.

كانت رنوة يوسف- زوجة الصحفي يوسف شعبان الذي يقضي عقوبة الحبس ١٥ شهرًا في قضية “قسم الرمل” بسجن برج العرب- قد نشرت على صفحتها بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، ما يُفيد بأن زوجها يواجه تعنتًا في استئناف علاجه من الالتهاب الكبدي “فيروس سي”. فقالت إنها خلال زيارتها الأخيرة لـ”يوسف” سألت عن إجراءات “عمل تحاليل” للمسجون؟ فأخبرها الضباط بأن “الدكتور متوفر، ولكن الأدوات لا”، وطلبوا منها إحضار الأدوات في الزيارة المقبلة لسحب عينة خلال الزيارة عن طريق طبيب السجن.

وأوضحت “رنوة”، أنها خلال زيارتها الأخيرة لـ”يوسف” أخذت معها كل الأدوات اللازمة لسحب العينة، لافتة إلى أنهم فوجئوا بأن “إدارة السجن غيرت كلامها وقالت طبعًا ممنوع نسحب له عينة من هنا في السجن”. وأضافت: “لمدة ٤ أو ٥ ساعات متواصلة بنتمطوح من الضابط ده للأمين ده، وكل واحد فيهم بيقول رأي وانتهى اليوم بفشلنا في إننا نسحب العينة من يوسف”.

يقول رضا مرعي- المحامي بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية- إنه وفقًا للائحة السجون من المسموح للسجناء تلقي العلاج داخل السجن، ويُفترض أن توفر لهم وزارة الداخلية جميع الأدوية المطلوبة. غير أن إدارة السجن في كثير من الأحوال تتعلل بعدم وجود الأدوية المطلوبة لديها، وفي هذه الحالة من البدهي أن تسمح بدخولها من الخارج خلال زيارات الأهالي، إلا أن ما يحدث أن الإدارة ترفض بدعوى “أنها لا تعرف طبيعة هذه الأدوية، أو أن طبيب السجن غير موجود للكشف عليها وتحديد إمكانية السماح بدخولها”.

يضيف مرعي: “المشكلة الحقيقية أن التجهيزات الطبية داخل السجون غير موجودة أو محدودة للغاية، والقانون يقول إن كل مستشفى يجب أن يتوفر بها طبيب على الأقل، لكن مع ارتفاع عدد السجناء أصبح وجود طبيب واحد غير مُجدٍ”.

ويُكمل: “السجناء يُسجلون طلبهم بالكشف لدى الطبيب، ثم ينتظرون دورهم الذي قد يأخد وقتًا طويلًا، وفي حالة أن المريض في حالة سيئة قد يؤدي ذلك للوفاة، وبخاصة مع عدم وجود طبيب السجن طوال الوقت”.

يطرح مرعي إشكالية أخرى تتعلق بمن لديه سلطة اتخاذ قرار نقل سجين مريض إلى مستشفى السجن أو مستشفى خارجي. فيقول: “نقل المرضى إلى المستشفيات سواء داخل السجن أو خارجه، ليس بيد الطبيب، فهو يكتب توصية بضرورة نقله، ويرفع الأمر لمأمور السجن وهو  يتخذ القرار في النهاية، ودائمًا ما تكون الاعتبارات الأمنية لها اليد العليا”.

يضيف أن تعديل لائحة السجون لم يحل هذه المعضلة، إذ كانت اللائحة القديمة تنص على أنه في حالة الاختلاف بين طبيب السجن والمأمور، يُرفع الأمر إلى رئيس مصلحة السجون، وفي اللائحة الجديدة أصبح الأمر يُرفع إلى الإدارة الطبية بوزارة الداخلية، وفي كلتا الحالتين “القرار أمنيّ وليس طبيًّا”.

يلفت مرعي إلى أن “أطباء السجون هم ضباط شرطة، درسوا في كلية الضباط المتخصصين، وبالتالي فهم إداريًا تابعون إلى وزارة الداخلية، مما يدفعهم إلى عدم التصعيد أو الصراع من أجل نقل مريض إلى المستشفى في حالة احتياجه لذلك”.

يقول مرعي إن السجين يكون في حوزة مصلحة السجون، وهي المسؤولة عن حياته، وبالتالي فحتى الوفاة بسبب سوء حالته الصحية تقع ضمن مسؤوليتها إذا ما كان ذلك بسبب إهمال طبي. وهو ما تلخّصه فيّاض قائلة: “الموت بسبب الإهمال.. قتل عمد”.

تنقلنا النقطة الأخيرة إلى مسؤولية نقابة الأطباء عن الإشراف على الأداء المهني لأطباء السجون، وهو ما تحدث فيه «مدى مصر» مع الدكتور رشوان شعبان- الأمين المساعد لنقابة الأطباء- الذي قال إن النقابة لها الحق في إحالة أي طبيب، بما في ذلك أطباء السجون، إلى لجنة آداب المهنة ومعاقبته، إلا أن “النقابة للأسف غير قادرة على القيام بدورها وفقًا للائحة إلا بعد تلقيها شكوى في واقعة محددة تخص طبيب بعينه. ومعظم الشكاوى التي تلقيناها تكون مُجهّلة دون تحديد اسم الطبيب أو رقم قيده في النقابة”.

يضيف شعبان أن النقابة أرسلت العديد من المطالبات للنائب العام ووزير الداخلية للتحقيق في الحالات التي وصلت إليها في هذا الشأن، إلا أنها لم تتلق أي ردود.

ويؤكد أن النقابة نسّقت مع المجلس القومي لحقوق الإنسان للقيام بزيارات مشتركة للسجون، يسمح أثناءها بدخول أطباء من طرف النقابة للوقوف على الحالة الصحية هناك ومستوى الرعاية الطبية، غير أن وزارة الداخلية رفضت.

يقول شعبان: “في النهاية أخذ مجلس النقابة قرارًا بإحالة رئيس القطاع الطبي للسجون المصرية إلى التحقيق أمام لجنة آداب المهنة بما أنه المسؤول عن الرعاية الطبية في السجون، وأخطرناه بموعد التحقيق، إلا أنه لم يحضر”.

ويختتم: “لا يوجد تعاون من إدارات السجون ووزارة الداخلية. للأسف، فهم يتعاملون كما لو كانوا فوق القانون والمهنة والطب”.

اعلان
 
 
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن