المربع الذهبي في الشرق الأوسط

بدأت المسيرة عام 2003، وجاءت المبادرة من الاتحاد الأوروبى، استخلاصًا من درس الغزو الأمريكي للعراق في مارس من العام نفسه، ومن درس انقسام الأوروبيين العميق حول الموقف من هذا الغزو، ما بين مؤيدين مشاركين مثل بريطانيا، ومؤيدين متضامنين مثل إيطاليا وإسبانيا، وما بين معارضين بشدة بقيادة ألمانيا وفرنسا.

في نوفمبر من ذلك العام- 2003، قام وفد من وزراء خارجية ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، بزيارة طهران لإقناع الحكومة الإيرانية بإخضاع برنامجها النووي لإشراف الوكالة الدولية للطاقة النووية- وهو ما استجابت له إيران فورًا، وبتقديم الضمانات المطلوبة لسلمية البرنامج، وهو ما احتاج إلى اثنتي عشرة سنة.

أما قرار إيفاد هذه الترويكا الأوروبية إلى طهران؛ فقد اتخذ بناء على مبادرة ألمانية تقدم بها يوشكا فيشر- وزير خارجية ألمانيا آنذاك- إلى مجلس وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، وكانت فكرة فيشر وراء هذه المبادرة، أنه لكي يتجنب الاتحاد الأوروبي الانقسام مرة أخرى حول “مغامرات أمريكية جديدة في العالم”، ولكي يكون للاتحاد الأوروبي دور مؤثر في السياسة الخارجية الأمريكية، ولكي لا يتكرر الانقسام بين شركاء حلف الأطلنطي، فيؤدي هذا التكرار إلى ضعف الحلف، فلا يعقل أن يظل الدور الأوروبي مجرد تابع للسياسة الأمريكية، أو أن يبقى هذا الدور مجرد رد فعل لتحركات الولايات المتحدة، بالرأي والتعليق، أو المعارضة أو التضامن، وإنما يجب أن يكون لأوروبا دور مبادرفي مناطق الأزمات الكبرى الحالية والمحتملة في العالم، من أجل نزع فتيل هذه الأزمات، ووضعها على طريق التسوية السلمية، ومن أجل قطع الطريق على الجناح المتشدد في السياسة الأمريكية، الذي يميل إلى استخدام القوة المسلحة.

وأما كيف طور يوشكا فيشر هذه المبادرة؛ فإن ذلك ترتب على استشارة استراتيجية قدمها للحكومة الألمانية التي كان يرأسها المستشار الاشتراكي الأسبق جيرهارد شرودر: قدمها ريمون بار- أول وزير خارجية في حكومة المستشار الاشتراكي (الأول في تاريخ ألمانيا) فيلي برانت، رائد سياسة الانفتاح على الشرق في أواخر ستينيات القرن الماضي- وفي ذروة الحرب الباردة، وهي السياسة التي أدت إلى “الوفاق” بين الكتلتين، بعد أن تبنتها إدارة نيكسون- كيسنجر في الولايات المتحدة الأمريكية.

 [ملحوظة: كان الكاتب يعمل وقتذاك مراسلًا للأهرام في ألمانيا]

هذه المقدمة الطويلة نسبيًا لا تستهدف فقط إثبات أن صنع التحولات الكبرى في العلاقات الدولية يستغرق وقتًا طويلاً نسبيًا، ولكنها تستهدف أيضًا حفز تفكيرنا في مصر وفي بقية دول الشرق الأوسط لاستشراف ما يمكن أن يؤدي إليه هذا الاتفاق في سياق الصراعات الجارية في كل شبر في المنطقة الآن من ترتيبات إقليمية محتملة، حتى وإن استغرق التوصل إلى هذه الترتيبات عشر سنوات، أو اثنتي عشرة سنة أخرى، وما تتطلبه هذه العملية من سياسات من الدول الكبرى والإقليمية، وما ستفرضه من استحقاقات على سائر الأطراف، خاصة الأطراف الأضعف في الحلبة.

ومن الآن أقول، إن الاحتمال الأرجح هو أن المنطقة  ستشهد آجلًا- وربما عاجلًا- نوعًا من الوفاق بين أربع دول يمكن أن نسميها المربع الذهبي في الشرق الأوسط، وهي: مصر وتركيا والسعودية وإيران.

حتى لا يستهول أحد من القراء هذه النبوءة، أستميحكم العذر، فأذكر أن كاتب هذه السطور توقع في مقال في صحيفة الأهرام عام 2006 الوصول إلى صفقة شاملة بين الولايات المتحدة وإيران، وإن طال المدى. وانبنى هذا التوقع على خلاصة مناقشة جرت في المجلس المصري للشئون الخارجية مع الدكتور غسان سلامة- أستاذ العلاقات الدولية بجامعة السوربون الفرنسية، ووزير الثقافة اللبناني الأسبق، وممثل السكرتير العام للأمم المتحدة في العراق بعد الغزو الأمريكي.

كيف سيتشكل ذلك المربع الذهبي الذي نتحدث عنه بالرغم من الحروب المشتعلة مباشرة أو بالوكالة في ما بين أطرافه ووكلائهم في العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا، وبالرغم من احتدام الصراعات الداخلية، والعمليات الإرهابية في مصر والسعودية وغيرها من إمارات الخليج؟ وبصيغة أخرى للسؤال: ما العوامل المرجحة للوفاق في نهاية المطاف، بالرغم من كل تلك الحروب والصراعات وذلك الإرهاب؟

هناك أولًا: السبب الإنساني الأعم، وهو أن كل الصراعات في كل الأزمنة، وفي كل الأقاليم تنتهي إلى تسوية عند لحظة معينة يوقن الأطراف عندها أن الجميع خاسرون من استمرارها، وأن الجميع فائزون بتسويتها، وقد حدث ذلك في أعتى الصراعات تطرفًا في التناقض الإيديولوجي، على سبيل المثال لا الحصر، بين الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي، وبين مصر وإسرائيل، وبين عراق صدام حسين وإيران الخميني.

ثانيًا: أن الدول الأربع المرشحة لتشكيل مربعنا الذهبي جميعها دول محورية في الإقليم، ودول لديها عمق تاريخي، ولا تتصور أغلبه- باستثناء إيران- أن تسعى وراء هيمنة إقليمية بالوسائل الخشنة، وسنعود توًّا إلى هذا الاستثناء الإيراني لنثبت أنه يمكن احتواءه، ومن ثم تحييده سلميًا، علمًا بأن قولنا هذا لا يعني نفي أو استنكار طموح أي من الأطراف لمد نفوذها في أرجاء المنطقة، وإلا لما كانت دول محورية.

السؤال إذن: كيف يمكن احتواء وتحييد نزعة الهيمنة الإقليمية الإيرانية؟

لقد أثبت التوصل إلى الاتفاق النووي بين إيران والدول الكبرى من بين ما أثبته، أن قوى الاعتدال في السياسة الإيرانية قد تغلبت على قوى التشدد الداعية إلى استمرار المواجهة مع “قوى الاستكبار العالمي حسب القاموس الإيراني”.

وكانت قوى الاعتدال هذه هي من جاءت بالشيخ حسن روحاني رئيسًا للجمهورية، بعد سنوات الاضطراب والعصبية التي قاد فيها الرئيس السابق أحمدي نجاد الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بل إن قوى الاعتدال هذه كادت تنجح في إسقاط نجاد في انتخابات الفترة الثانية له، لولا ما حدث من تزوير، ومن قبل جاءت قوى الاعتدال بالشيخ محمد خاتمي “المعتدل” رئيسًا سابقًا على نجاد نفسه.

بما يعني أن نجاد كان جملة اعتراضية طالت أكثر من اللازم.

ولقد كانت قوى الاعتدال في إيران دائمًا فعالة، بدليل أن القيادات الإيرانية المتشددة لم تجرؤ في أي وقت على تحريك جيشها إلى خارج حدودها، مهما كانت تبلغ خطاباتها من حماسة وتحريض، وبالطبع، فإن تحريك الجيش خارج الحدود شيء، ومساعدة الوكلاء المحليين في دولهم بالمال والسلاح والخبراء شيء آخر، مثلما حدث ويحدث في لبنان (حزب الله) ونظام بشار الأسد في سوريا، والتحالف الحزبي الشيعي في العراق، والحوثيين في اليمن.

وأما القول إن الاتفاق النووي مع القوى الكبرى يتيح لإيران موارد مالية ضخمة سواء من الأموال المجمدة- التي يقدرها البعض بما بين مائة ومائة و خمسين مليار دولار، أو من عائدات الصادرات النفطية التي سوف تستأنف، وأن هذه الموارد سوف تستخدم في دعم المخطط الإيراني لإثارة الاضطرابات، وحماية الوكلاء المحليين، وصولًا إلى الهيمنة؛ فإن ذلك القول يتجاهل حقيقتين كبريين.

الأولى، هي أن ما يتوقعه غالبية الشعب الإيراني- أي قوى الاعتدال التي انتخبت حسن روحاني- هو عكس ذلك تمامًا.. أي أن الإيرانيين في غالبيتهم يتوقعون، بل ويظمأون إلى استخدام هذه الموارد في تحسين مستوى المعيشة، ودفع عجلة التنمية المتعثرة بسبب العقوبات الدولية، والالتزامات الخارجية الباهظة.

ويقدر الخبراء ما تحتاجه تنمية حقول البترول والغاز المحرومة من التكنولوجيا الحديثة منذ قيام الثورة الإسلامية بمبلغ يفوق كثيرًا أرقام الأموال المجمدة في الخارج.

ثم إن فك العزلة الدولية لإيران، وانفتاح الولايات المتحدة وأوروبا عليها يؤدي تلقائيًا إلى تخفيف عصبية وحدة السياسة الخارجية الإيرانية، بحيث لا تحتاج إلى التخريب الدائم في المنطقة تأكيدًا لأهميتها، وعقابا لمن عزلوها.

أما الحقيقة الكبرى الثانية والأهم التي يتجاهلها المتشائمون من السلوك الإيرانى بعد الحصول على تلك الأموال، فهي أن الأطراف الإقليمية الأخرى لن تقف متفرجة، وهي لم تعد تقف متفرجة على السلوك الإيراني في انتظار تدخل أمريكي- أو حتى إسرائيلي- لكبح جماح إيران، على الأقل منذ بادرت السعودية إلى قيادة تحالف إقليمي لإخضاع التمرد الحوثي في اليمن.

إن السعودية لديها الأموال، والحلفاء المحليون في كل جبهة من جبهات الصراع مع إيران، وأصبح لديها الآن الإرادة، ووضوح الرؤية، وهذا كله أنتج استراتيجية محددة طويلة الأجل على ما يبدو، وتمتد من اليمن إلى سوريا، ومن سوريا إلى العراق، ومن ثم إلى فلسطين وليبيا.

وليس التدخل المسلح المباشر في اليمن إلا أحد أركان هذه الاستراتيجية، التي تتضمن أيضًا تدريب وتسليح القوى المحلية الحليفة- خاصة في اليمن، وسوريا بالتعاون مع تركيا، كما تتضمن بناء تحالفات سياسية محلية في جبهات الصراع (سوريا واليمن والعراق ولبنان وليبيا وفلسطين) لسد الثغرات التي ينفذ منها وكلاء إيران في كل هذه الجبهات.

ومما يستلفت النظر، ويستحق التقدير في هذه الاستراتيجية السعودية المتفاهمة تمامًا مع تركيا، أنها لا تعتمد مبدأ الإقصاء لوكلاء إيران تمامًا من أية تسوية محتملة في جميع الجبهات التي يجري فيها الصراع، بل إنه باستثناء شخص ونظام الرئيس السوري بشار الأسد، يتحدث السعوديون والأتراك، عن تسويات تشمل الجميع، بمن فيهم الحوثيون في اليمن، وبالطبع شيعة العراق، وأيضًا الطائفة العلوية السورية، دون قيادة بشار.

وأخيرًا؛ فإن لإيران وحلفائها، الشيعة في العراق وسوريا ولبنان، مصلحة مؤكدة، بل ومصيرية في القضاء على تنظيم داعش، وهنا جبهة تعاون موسعة وواعدة ليس فقط بين إيران، وكل من السعودية وتركيا ومصر، بل بين هذه الدول الأربع، وبين القوى الكبرى في العالم شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا.

حالة مصر

تبقى مصر إذن هي الثغرة في هذا السيناريو.. فرغم المصلحة المؤكدة لمصر استراتيجيًا، وأمنيًا، واقتصاديًا في تحجيم المد الإيراني، وتحييده؛ فإن الصراع الجاري على أرضها بين السلطة وجماعة الإخوان، وبين السلطة والإخوان من ناحية، والقوى الديمقراطية الواعدة من ناحية أخرى، أدى ولا يزال يؤدي إلى تشوش الرؤية الاستراتيجية أمام صانع القرار، لذا نجد الموقف المصري في سوريا يناهض الرؤية السعودية التركية، ونجد أن مصر تبدو في العلن رافضة لأي ترتيبات تقودها السعودية وتركيا لتجنيد جماعة الإخوان المسلمين ضمن التحالفات السنية الكابحة للمد الشيعي الموجه من إيران، وللمد السني المتطرف ممثلا في داعش وشراذم تنظيم القاعدة، وهي التحالفات المرشحة لتولي السلطة في كل من اليمن وسوريا والعراق، غير أن كاتب هذه السطور يعتقد أن انضمام مصر إلى هذه الاستراتيجية ليس إلا مسألة وقت، وأن العد التنازلي سيبدأ فور سقوط بشار الأسد في سوريا؛ لأن مصر لن تطيق أن تبقى معزولة عن الإقليم على هذا النحو تاركة السعودية وتركيا تقودان “الإسلام السني”. ولعل ما بدر على لسان الرئيس السيسي في بداية شهر رمضان المنقضي، وقبل موجة الإرهاب الأخيرة شديدة الوقع، من أن مصر تسع الجميع بمن فيهم الإخوان المسلمون “المسالمون”.. لعل في ذلك ما يشير إلى أن مصر لا تطيق أن تبقى طويلًا خارج السرب، أما كيف سيحدث ذلك من مصر، وفيها، فليس واضحًا لأحد الآن، كما أنه ليس واضحًا الاستحقاقات التي سوف تترتب عليه، وكل الاحتمالات مفتوحة.

في هذه الحالة المؤكدة لنجاح الاستراتيجية الإقليمية لوقف التمدد الإيراني، والتسوية التوافقية للصراعات في اليمن وسوريا والعراق، وإضعاف داعش تمهيدًا للقضاء عليها.. لن تجد قوى الاعتدال في إيران مخرجًا سوى التعاون مع بقية الشركاء في الإقليم.. لا سيما أن الاستراتيجية الإقليمية “السنية” بقيادة السعودية وتركيا (في انتظار مصر)، لا تستهدف البتة إقصاء الشيعة من معادلات الحكم والتنمية في بلادهم- كما سبق القول.

عندئذ سيتشكل المربع الذهبي على قاعدة أن الجميع فائزون.. عدا إسرائيل بالطبع.

اعلان
 
 
عبد العظيم حماد 
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن