ريم ماجد: سقف حرية الإعلام لم ينخفض بالضغوط وحدها.. ولكن بقناعات أصحاب المهنة
 
 

ابتعدت عن الساحة الإعلامية منذ ما يقرب من العامين، ومثلما كان غيابها مثيرًا للجدل، كانت عودتها. ابتعاد ريم ماجد عن الساحة كان متزامنًا مع التغير في التوجه الإعلامي العام الذي صاحب تغير النظام الحاكم، في يوليو 2013، ومن وقتها وحتى مطلع الشهر الجاري، لم يأت ذكر ريم سوى مع تساؤل عن إمكانية عودتها مرة أخرى. وبالفعل عادت ببرنامج “جمع مؤنث سالم” الذي كان يعرض على قناتي “أون تي في” المصرية، و”دويتشه فيلة” الألمانية.

قبل مرور شهر من عودتها، وقبل عرض أكثر من ثلاث حلقات من برنامجها، عاد اسم ريم ماجد للتردد بكثافة، وذلك بعد أن أعلنت “أون تي في” عن “تأجيل” عرض باقي حلقات البرنامج، لإعادة هيكلة الخريطة البرامجية للمحطة، وهو ما تزامن مع توارد أخبار عن وجود قرار “سيادي” بمنعها من الظهور مجددًا على أية قناة مصرية.

قبل عام من الآن، وبعد أشهر من ابتعادها عن شاشة التليفزيون، كانت ريم ماجد ضيفة على “مدى مصر”، وتحدثت في حوار مع فريقنا عن شعورها بالغربة عن الساحة الإعلامية.. وهي الغربة التي انتهت مؤخرًا إلى إقصائها حتى عن تقديم برامج اجتماعية الطابع.

ننشر هذا الحوار الآن في وسط التصريحات المتضاربة من أطراف الأزمة، في محاولة لفهم الخلفية الفكرية لريم خلال فترة انسحابها من المشهد الإعلامي، ومدى اتساق كل طرف مع أفكاره المعلنة.. وربما تكون بعض النقاط المثارة في الحوار مر على موعد طرحها وقت طويل، لكن يبقى لها أهميتها في سياق متابعة ما قد يكون “جذور المشكلة”.

مدى مصر: بداية، لماذا توقفتِ عن تقديم برنامجك “بلدنا بالمصري” على “أون تي في”؟

ريم ماجد: توقفت- ببساطة-؛ لأن المهنة التي أعرفها مختلفة عن الموجود الآن. على العكس من اعتقاد البعض أني ابتعدت لأن عندي اعتراضات سياسية.

سياسيًا، كنت أحب أن أكون موجودة، إنما مهنيًا كان مستحيلا. أنتم كصحفيين تعلمون أن هناك ما يسمى “شرط الضمير”. المحطة نفسها غيرت توجهها، مع احترامي لهم بما أنهم يصدقون ما يعملون، لكنها أخذت اتجاهًا لم يترك لنا مساحة مشتركة نقف عليها.. فرحلت.

مدى مصر: نعود خطوة للوراء.. هل تخبرينا عن تجربتك في هذا البرنامج، والمساحات التي استطعت أن تخلقيها من خلاله، وكيف اكتسب أهميته؟

ريم: البرنامج والمحطة كانا موجودين من قبل، لكن عُرفوا أكثر بعد ثورة يناير.

أعتقد أن العمل الذي قمنا به من قبل هو ما ساعدنا في الظهور بعد الثورة. أنا عندما بدأت في “أون تي في” كان ورائي مسيرة مهنية تمتد إلى ١٢ أو ١٣ سنة، ولكن أغلبها كان باللغة الفرنسية، وجزء كبير منها كان في الأفلام الوثائقية، لهذا لم أكن معروفة جدًا. لكل هذا لم يكن هناك تركيز في بداية عملنا، ولكن كان البعض يرانا، ربما بسبب الطريقة المختلفة في الكلام، أو تناولنا لموضوعات لا يهتم بها الكثير من البرامج. كنا نتابع ونجري وراء القضايا ولا نسعى وراء فرقعة ثم نتركها. أعتقد أن هذه “المعافرة” في البداية كانت أسهل لعدم وجود تركيز شديد علينا.

أما في وقت الثورة- وعلى عكس ما قد يتوقعه البعض- لم يكن هناك مثلًا اجتماع كبير في المحطة لنقرر الخط التحريري. لقد عمل كل منا بلا اتفاق، ولكن في تلك اللحظة كانت المحطة كلها على هذا الخط، فذهبت في هذا الاتجاه بالرغم من كل الكوارث التي تأتينا “من فوق” من كل ناحية.

لم تكن هناك ضغوط من إدارة المحطة، ولكن كان هناك خوف من الإغلاق. كنا نشد ونرخي دون اتفاق أو خطة. وأعتقد أن ما حدث في البرنامج، والقناة، والإعلام المصري عمومًا، كان أننا نوسع المساحات وندفع الثمن. ولذلك فما يؤلمني الآن هو أن تعود الناس بإرادتها عن شيء قد حققته بأنفسها ودفُع فيه ثمن.

السقف الذي رُفع إلى آخره لم يعلو وحده، ولا بسهولة، ولا بلا ثمن. فلا ينفع أن نُنزله مجددًا غير مبالين بالثمن الذي دُفع.

مدى مصر: ما اللحظة الفارقة التي أدركت عندها عدم قدرتك على التماشي مع الساحة الإعلامية في مصر؟

ريم: لم تكن لحظة فارقة. معظم الأشياء في حياتي المهنية حدثت بالصدفة، ولكن دائمًا ما أكتشف بعد حدوثها أنها كانت أفضل شيء.

فبالصدفة يوم 3 يوليو، هو آخر يوم لي على الهواء، قبل إجازتي السنوية التي آخذها في رمضان. وكان من المفترض أن أعود بعد رمضان، ثم قضيت إجازتي خلال هذا الشهر وأنا أشاهد.. فلم أعد.

لم يكن هناك لحظة تم منعي فيها، أو أي شيء من هذا القبيل، لم تأت فرصة لاختبار هذا. لم يكن لتوقفي دخل بضغوط أو بوضع سياسي، بل بمحطة كنت أعمل بها غيرت اتجاهها تمامًا، بما لا يسمح بأي شيء مشترك بيننا. أنا لا أقول إن التوجهات كانت متطابقة طوال السنوات الماضية، ولكن كان هناك حد أدنى مشترك- مهنيًا على الأقل- نستطيع العمل عليه.

الشيء الثاني، هو أن المحطة- بقناعة شديدة- ترى أننا في هذه اللحظة يجب أن نكون أداة في يد النظام؛ لأن هذا ما سينقذ مصر. ولكني أرى أن إنقاذ مصر ليس عملنا. يجب أن نقوم بعملنا، وهذا لا يسمح بأن نكون أداة في يد النظام. حتى وإن انتخبت الحاكم في يوم من الأيام لن أكون أداة في يده، سأحاسبه أيضًا، أحاسبه ليعيش.. لا ليقع.

مدى مصر: ماذا لو كنتِ عدتِ بعد إجازتك واستمررتِ في الخط الذي اتخذتيه، هل كان ذلك ممكنًا؟

ريم: لم أكن أريد ذلك. هم أرادوا ذلك وعرضوا حلا وسطًا، ولكن كما قلت، لقد وصلنا إلى سقف مرتفع جدًا ودفعنا ثمنًا غاليًا له، فلا يمكن القبول بحل وسط.

قد أكون مخطئة، قد يكون اختيار زملائي الذين استمروا وحاولوا أن يقولوا أكثر قليلًا من الباقين هو الأفضل، لكني أعتقد أن نصف الحقيقة كذب. فإذا استطعت أن أقول أكثر ولكن ليس كل ما يجب أن يقال، سأرسم صورة يبدو معها وكأن هناك حرية تعبير، وسيعطي هذا مصداقية زائفة للنظام.

لا أستطيع القول ماذا كان سيحدث إذا ظهر أحد على الشاشة وقال الحقيقة كاملة لأني لم أحاول، ولكن من الواضح أن هذا لم يكن ممكنًا.

النقطة الأخرى هي إمكانية الوصول إلى معلومات. مراسلونا كانوا على الأرض وقت فض رابعة، كان هناك أربع ساعات لم يستطيعوا تغطيتها. استطاعوا العمل من ٤إلى ٧ صباحًا. منذ السابعة صباحًا حتى ظهور صور خروج الناس من الممر الآمن، لم يستطع أحد التصوير. فإذا لم أستطع الوصول إلى معلومة.. ماذا أفعل، هل أظهر لأقول رأيي فقط؟

مدى مصر: نريد أن نتعرف على التسلسل الزمني لرفع سقف الحرية في الإعلام ثم سقوطه منذ ٢٠١١، من وجهة نظرك؟

ريم: في ٢٠١٢ وصلنا إلى أعلى نقطة في السقف. الآن عندما أفكر في الأمر أكتشف أني قد أكون ساذجة؛ لأن الدولة بأجهزتها وشعبها كلهم كانوا ضد هذا النظام في لحظة ما، وأنا أيضًا بالتأكيد. أنا لم أر هذا وقتها، ولكن كان هناك “براح” أكثر بكثير، بالتأكيد كان لا يزال هناك تجاوزات وصحفيون يتم اعتقالهم وقتلهم، ولكننا كنا وصلنا إلى السقف. رئيس الجمهورية كان يُنتَقَد بشدة. في ٢٠١٢ وصلنا إلى أعلى سقف فيما يخص حرية الإعلام، على عكس ما يروج، ولكن هذه الحرية لم يمنحها أحد بل دُفع فيها ثمن غالي. ظل السقف يعلو من ٢٠١١ حتى ٢٠١٢ ثم وقع، ليس فقط بضغوط- لأن الضغوط كانت دائمًا موجودة، نحن لم نعمل أبدًا دون ضغوط- ولكن بقناعات أن هذه ليست اللحظة المناسبة للتقويم والإشارة للخطأ. تماهيًا مع فكرة اللحظة الاستثنائية والحرب على الإرهاب. أصحاب هذه المهنة في هذه اللحظة لديهم قناعة أن عليهم مسؤولية إنقاذ البلد- من وجهة نظرهم.

مدى مصر: حتى عندما كانت هناك مساحة متاحة لم تكن تأت وحدها، بل كنتم تحصلون عليها بالنضال.. أعطينا أمثلة لعملية التفاوض التي كانت تحدث؟

ريم: من بعد ٢٠١١، كانت المشكلة تكمن في كل ما له علاقة بالمجلس العسكري. كان أكثر الممنوعات، إلا أننا كسرنا هذا الحاجز تمامًا ولكن بـ”معافرة”. مثلًا في قضية “كشوف العذرية”، لم نعلن مسبقًا أننا سنتحدث عنها، بل تحدثنا عنها مع حسام الحملاوي على الهواء، فتم تحويلنا إلى النيابة العسكرية. لكن إذا كنت قلت إني سأعمل على “كشوف العذرية” كانت ستكون معركة شديدة. مثلًا لكي نعرض مقاطع لمذبحة ماسبيرو أخذنا ٢٤ ساعة وخرجت بـ”الخناق”. وقت مرسي لم يكن هناك أي ممنوعات، كان مسموح بانتقاد الداخلية أو أي شيء. ولكن في أيام ذكرى الأحداث مثل ماسبيرو ومحمد محمود، “تقليب المواجع كان يحتاج للمعافرة”. كان السؤال هو: لماذا الآن؟ فلنركز على ما نحن فيه. ولكني كنت أرى أن ما نحن فيه هو امتداد لما مضى، وما دمنا في الذكرى والشخص الحاكم لم يحاسب المسؤولين فيجب أن نذكر.

مدى مصر: كان البعض يعتبرك ناشطة سياسية، في سياق عملك مع “أون تي في”.. ما رد فعلك على ذلك؟

ريم: في المرحلة الأولى لم أكن واعية لذلك، ولم أقصد أن أفعله، وكنت أقول “كتر ألف خير الدنيا”.. لأن هذه مرحلة جربنا فيها كل شيء: خفنا كما لم نخف من قبل، كما اختبرنا أملًا لم يأتنا من قبل، فرحة لم نفرحها من قبل، وشك، ويقين. كما أن دور الإعلام في هذه المرحلة لم يكن واضحًا طوال الوقت، كنت أشعر أن بيدي أداة ولا أعلم بالضبط كيف أستخدمها. فأعتقد أنه كانت هناك مرحلة تجريبية، لم نكن نقصد.

الآن، أول شيء أقوله للمتدربين في أول مقابلة: نحن لسنا نشطاء، ولسنا قادة سياسيين، ولسنا مصلحين اجتماعيين، ولسنا موجهين أو مدرسين، نحن صحفيون.. عملنا هو توصيل أكبر قدر من المعلومات نستطيع توثيقه وفقط. ولكن هناك لحظات، خاصة عندما تكون المنظومة كلها مشوهة، كنت أحيانًا أفعل أشياء وأنا أعلم أنها مهنيًا خطأ، ولكني لن أستطيع النوم إذا لم أفعلها. هناك ناس آخرون يخرجون عن النطاق المهني ولكن يكذبون، يضللون، يشوهون. في النهاية أنا يجب أن أقول ما رأيته بعيني.

ولكني في النهاية بعد المراجعة، وصلت لأن الوضع المثالي هو ألا يكون هناك رأي، ولكن إذا تضطررنا لذلك فيجب أن يكون واضحًا جدًا أن ما نقوله هو رأي، وليس الحقيقة المطلقة، وليس معلومة. وعندما راجعت ما فعلته، أنا لم أقدم رأيي أبدًا على أنه حقيقة.

الشيء الآخر هو أنه ليس هناك أية مشكلة في إعلان الموقف. في العالم كله وسائل الإعلام لها توجهات معلنة. أنا أرى أن إعلان التوجه هو حق للمشاهد.

ما الحياد؟!.. نحن نأخذ كم قرارات لا يمكن معها الحياد.. بدءًا من اختيار الضيف. ليس هناك حياد ولكن هناك مهنية. وأنا عندما أراجع ما فعلته، أعتقد أنني طوال الوقت لم أكن محايدة ومعظم الوقت كنت مهنية بقدر المستطاع، في ظل ظرف كان أكبر منا جميعًا.

اعلان
 
 
هبة عفيفي 
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن