موسيقى البوب.. الأبوية والنوستالجيا الزائفة
 
 

* نُشر هذا المقال بالتعاون مع موقع “حبر

في مصر، يسيطر على موسيقى البوب الجماهيرية إما رجال منفوخو الرجولة يبدون ميّالين للجنسين في الوقت ذاته، كعمرو دياب ذي العضلات المفتولة والوجه المحقون بالبوتكس، وتامر حسني اللامع ذي الحاجبين المصففين بعناية، أو نساء يصارعن في سبيل الوصول للمظهر الاصطناعي المثالي، أمثال هيفاء وهبي وشيرين عبد الوهاب. إنه أسلوب يحاكي حال موسيقى البوب في أماكن أخرى حول العالم.

في فيديوهات البوب، يحضر نمط جمالي خاص يتطلب وجود تأثيرات بصرية رخيصة، ومبالغة في زخرفة الملابس والتبرج، وحبكة درامية مفادها “أريد رجلًا”. وعادة ما تنتهي هذه الفيديوهات بامرأة تنزف أو تنتحب بالعرض البطيء فيما يبتعد حبيبها عنها ويقود سيارته مختفيًا في الأفق.

تعبر موسيقى البوب الذكورية كل الحدود والثقافات. ومنذ ظهور القنوات الفضائية بداية التسعينات، تبنى مغنو البوب المصريون أنماط وأساليب إنتاج “غربية”، مثلهم مثل غيرهم من النجوم العرب، مجسّدين ذكورية فاقعة في الفيديوهات التي نتجت عن هذا التبني.

مؤخرًا، صار احتمال تقديم المغنيات لمثل هذه الذكورية مماثلًا لاحتمال تقديم أقرانهن الذكور لها. باتت أغانيهن تتحدث عن بؤس العيش كنساء، وعن أن غاية أمانيهن هي أن يكون رجالهن طيبين معهن تمامًا كما كان الحال في الزمن الجميل، زمن الأبيض والأسود.

لكن  الحال لم تكن دومًا هكذا.

لعل أم كلثوم، التي رحلت عام 1975، كانت أول نجمة في موسيقى البوب الجماهيرية المصرية. كانت أغاني أم كلثوم تجارية ومنتشرة على نطاق ضخم، رغم أنها كانت أطول بكثير مما نجده في موسيقى البوب الحالية التي التزمت بنمط الفيديو كليب العالمي. لا تزال أم كلثوم تحظى بمكانة نجمة بوب، لكن كلمات أغانيها لم توحِ يومًا بالخضوع، حتى وإن كانت رومانسية في بعض الأحيان.

سعاد حسني (1943-2001) بذلت مجهودًا محددًا للتعبير عن المساواة في أغانيها. مسلسلها التلفزيوني “هو وهي” (1985) الذي كتبه صلاح جاهين تناول مواضيع اجتماعية وحاول أن يبدو نسويًا. كل حلقة فيه كانت مميزة. في إحدى هذه الحلقات، تغني سعاد حسني مع تلميذاتها:

قولوا يا بختنا،
قد إيه كلنا،
فرحانين إننا،
اتولدنا بنات؟
البنات حنيّنين،
كلهنّ طيبين،
همهم خدمة بلدهم زيّهم زي البنين.
البنت زي الولد،
ما هيش كمالة عدد.

سيمون (المولودة عام 1966) التي صعد نجمها في أواخر الثمانينات، كانت لديها أجندة نسوية واضحة، لكنها لم تحظَ يومًا بالنجاح الذي حظي به أقرانها الذين امتثلوا لما هو سائد. في أغنية “مش نظرة وابتسامة” الصادرة بُعيد عام 2000، تغني سيمون:

مش نظرة وابتسامة،
مش كلمة والسلامة،
دي حاجات كتيرة ياما،
لو ناوي تحبني.
إيه يعني قلبك حنيّن؟
إيه يعني رمشك يجنّن
لو حلو، أنا برضو حلوة
وتجيني أقول يحنّن
لا ح أخاف ولا أنحني

وفي فيديو أغنية “خاف مني” الصادرة عام 2008، تضرب سيمون رجالًا كانوا يعاملون النساء بحقارة.

في أول فيديو ناجح لها، “آه يا ليل” (2002)، تظهر شيرين -إحدى أنجح مغنيات البوب المصريات اليوم- بقمصان بولو وقصة شعر قصيرة وسترة جلدية، معلنة عن فردانيتها، لتغني: “ليه فاكر إنه الدنيا في بُعدك ما فيهاش ولا قبلك ولا بَعدك؟”.

لكن إذا قفزنا من 2002 إلى اليوم، نجد شيرين باتت تصدر أغانٍ مثل “أنا كلّي ملكك” (2014)، التي يجمع مونتاجها الغريب مشهدًا تعزف فيه على بيانو أبيض قرب الشاطئ، بمشهد ترتدي فيه فستان زفاف، ومشاهد شبه إعلانية لعقد القران، فيما تخرج أغنية عن الحب الأبدي بصعوبة من شفتي شيرين المنفوختين.

أغنية روبي “إنت عارف ليه” (2003) مثلت نوعًا آخر من هذه الأغاني. في لقطات تمثيلية مختلفة صُوّرت في براغ، ترقص روبي بملابس شرقية “إكزوتيكية”، مستقطبةً جمهورًا مستشرقًا وآخر مكبوت جنسيًا في الوقت نفسه. وهناك ما هو أسوأ. بوسعنا القول أن روبي ومنتج فيديوهاتها شريف صبري يشكلان صنفًا خاصًا بمفردهما.

لكن مؤخرًا، باتت أشياء جديدة تدخل لتموّه بفكرة الحب. بعد التركيبة المعتادة لأغاني البوب “نحن نحب بعضنا، لذا نجرح بعضنا”، جاءت أغانٍ تتحدث عن الألم والحرمان فحسب. منذ عام 2000، بدأ تامر حسني ومحمد حماقي ورامي صبري يغنّون عن السلطة باسم الحب: عن رجل يقول لامرأة أن عليها فعل ما يطلبه.

أوضح مثال هو أغنية تامر حسني “سي السيد” التي ظهر فيها النجم الأمريكي سنووب دوغ (2013). يروي الفيديو كليب قصة قصيرة: تغضب زوجة تامر لأنه سيخرج مع صديقه سنووب بدلًا من الخروج معها لتناول السوشي. لذا، يحبسها تامر في غرفة زجاجية ويلقي عليها محاضرة عن الفرق بين الرجال والنساء. يقدم الفيديو مفهومًا “شرقيًا” كلاسيكيًا مفاده أن هذه هي ببساطة طبيعة الأشياء؛ على المرأة أن تحترم الرجل. تحاول الأغنية إطفاء طابع حديث على هذا المفهوم بإضافة نظارات شمسية وملابس براقة. تضرب الزوجة النافذة بيدها فيما يسبح تامر في الأسفل مع سنووب ومجموعة من الفتيات اللاتي يرقصن بملابس كاشفة. يظهر سنووب بشكل متقطع بين الفينة والأخرى ليغني مقاطع راب تدور حول فكرة مفادها “البناطيل للرجال فقط”.

يصبح الأمر أكثر إثارة للاهتمام حين تقوم المغنيات بهذا الدور. في مطلع أغنية “استحملني” لجنّات (2014)، نسمع رسالة صوتية من حبيبها يقول فيه “حبيبتي بجد أنا آسف (..) إديني فرصة أثبتلك إنك أغلى حاجة عندي”. ترد جنات لتقول “استحملني اليومين دول لحد ما أحس أنا لوحدي، بإن تجاربك الأولى بقت مش فارقة قوي عندي”. تبدو الكلمات ساخرة، لكنها ليست كذلك. لب الأغنية هو طلب جنّات من حبيبها أن يصبر على استيائها منه: أنا آسفة لإنني استأت من خيانتك لي.

أغنية دنيا سمير غانم “واحدة تانية خالص” (2013) نالت 6 ملايين مشاهدة على يوتيوب. من المفروض أن تكون الأغنية “ثورية” لأنها نشرت على الإنترنت فقط، ما عدّه البعض بداية موجة جديدة من الموسيقى المستقلة. ولأن دنيا في الأساس ممثلة، فقد تحمس الجميع لغنائها.

جرالي إيه من ساعة لما جاني،
دنا بخاف لو ثانية يروح بعيد (..)
دنا بقيت بلبس على كيفه،
مبقولش لأ على حاجة بيعوزها.
وبقيت أشوف كل اللي بيشوفه،
والتعليمات بالحرف أنفذها.
مهو خلاص سيطر على حياتي،
ومفيش ولاد غيره بكلّمهم.
لأ وكمان بينقّي صاحباتي،
طب أعمل إيه؟ مش عاجبه معظمهم.
أنا معاه تلميذة في سنة أولى،
بس الغريب أنا مبسوطة كده.
وبكون معاه على طول هادية وخجولة،
مع إن أنا في حياتي مش كده.

هذه الكلمات تحتفي بقمع النساء وتحاول إطفاء صورة إيجابية عليه بتصويره كصفة ثابتة في المجتمع المصري أو العربي. أغانٍ كهذه توفر حجة ثقافية للسلوكات الأبوية البدائية في مجتمع مراقَب ذاتيًا يستشعر أن الأمور فيه لا تسير كما يجب، على عكس غيره من المجتمعات.

لطالما وُجدت الذكورية في الموسيقى التقليدية للطبقة العاملة، الموسيقى الشعبية. لكن على عكس فيديوهات البوب الجماهيرية التي تستهدف مستمعين يتبنون التطلعات الاجتماعية والمادية للطبقة الوسطى، لا تموّه الموسيقى الشعبية ذكوريتها بما هو لائق ومقبول محليًا، فهذه الذكورية ليست هجومًا متعمدًا على النسوية.

في موسيقى المهرجانات، تحضر الذكورية في العديد من الأغاني الحديثة، كأغنية “الوسادة الخالية” لأوكا وأورتيجا. لكن بعض المغنين قطعوا شوطًا في محاولاتهم لمحاربة ذلك، كالسادات وفيفتي الذيْن غنيا ضد التحرش الجنسي في “أعاكس آه، أتحرش لأ“. الأغنية ذات الكلمات المباشرة حول ضرورة ترك البنات في حالهنّ نالت 127,000 مشاهدة على يوتيوب، وهو رقم منخفض جدًا بالنسبة للمغنييْن.

المشكلة الحقيقية هنا ليست في حضور الذكورية في الموسيقى الشعبية، بل في مساهمة النساء بازدياد في دفع ثقافة الطبقة الوسطى نحو الذكورية. سعيًا لتحقيقات نجاحات ضاربة، باتت المغنيات يصدرن أغانٍ تتحدث باللغة التي يود الرجال غير الواثقين من أنفسهم سماعها من شريكاتهم.

يقدم الواقع الافتراضي لهذه الفيديوهات ونجماتها صورة لما يجب أن تكون عليه الحياة. في مقاله “روبي والقلب ذو المربعات” عام 2005، ينتقد المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري الفيديو كليب بشكل عام: “الفيديو-كليبات (..) تقدم للعامة قدوة، وتروج لنمط حياة معين يجسد بدوره نظرة أوسع للعالم تضع المتعة الفردية فوق كل اعتبار. (..) يشَجّع المتلقي بوضوح على السعي وراء متعته الفردية عبر زيادة الاستهلاك؛ سعي وقح  نحو المصالح الذاتية الضيقة عبر شراء المزيد”.

بعد ذلك، ينتقل المسيري للدفاع عن النزعة المحافظة التقليدية المصرية، زاعمًا أن الفيديو-كليبات تربك الفتيات المهذبات وتغريهن بالرقص، لتكسر -للأسف- الحاجز الفاصل بين “العذراوات” و”العاهرات”.

تجسد هذه الفكرة على نحو مضحك مثالًا آخر على الدور المعولم المربك الذي تمارسه الفيديو-كليبات. كما تأثرت بها النساء الضعيفات الحزينات في فيديو-كليبات اليوم، تأثر المسيري كذلك بالطبيعة الجنسية لهذه الفيديو-كليبات، ما جعله يحنّ لماضِ مصري تقليدي زائف، إما أبيض أو أسود، كانت فيه النساء نساءً والرجال رجالًا.

اعلان
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن