كلمات موصولة.. ومعانٍ مقتولة

نحن نتحدث طوال الوقت، أو نستمع لمن يتحدثون طوال الوقت، الكثير من الكلام في الهواء تلتقطه أذُناك وأنت سائر هنا أو هناك. تعود من الشارع مرهقاً في المساء لتفتح التلفاز بحثاً عن الجديد في العالم البائس من حولك لعلّك تجد ما يجعلك تنام مبتسماً فتجد إما من يصرخ في الكاميرا (هل تصرُخ في انا؟)، أو يصرخ في ضيوفه أو يصرخ في مناظريه أو يصرخ في اللاشئ. الكثير من اللُعاب يتطاير في الهواء، انت لا تسمع حرفا مما يُقال، فقط تنظر إلى الأفواه التى تلوك الكلام، ثم تنام لتستمتع بالكوابيس الكلامية.

إن كنت لاتزال تقرأ الجرائد فوضعك ليس أفضل كثيراً. الجرائد وسيلة جيدة للغاية الأن لإضاعة المال والوقت. تقرأ المقال المفرود على صفحتين فلا تجد إلا الهُراء. المقال كان يمكن إختصاره في كلمات معدودة مثل “فلتصوت بنعم على الدستور” أو “أنا أحب السيسي” أو “الإخوان شرفاء هذا الوطن وليذهب الإنقلاب إلى الجحيم” لكن الكاتب قرر فقط إستهلاك المزيد من الأحبار والأوراق مما أسعد أرباب عربات الفول.

في ثلاثة سنوات نجح الكثير من المصريين في قتل معانى الكثير من المُفردات حتى أصبحت كالمسوخ. تقوم ثورة الخامس والعشرين من يناير فتجد أن الحلاق وعربة الكبدة وكل شئ أصبح اسمه “خمسة وعشرين يناير للـ…”. وبعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية أصبحت كل برامج التلفاز والراديو اسمها “مصر الجديدة” أو السعيدة أو أي شئ يدل على بهجة مصر. وقِس على ذلك كل المفردات التي لاكها المصريون بأسنانهم في الثلاث سنوات الماضية: الدستور، الديموقراطية، الشرعية، الإرهاب، الليبرالية، الإسلامية، الشريعة.. إلخ، الكثير من المصطلحات المتخصصة التي تم استهلاكها من دون أن نفهمهما وإن فهمناها فقد جعلناها بلا معنى من سوء الاستخدام.

هناك عبارات وشعارات رائعة مثل “عيش، حرية، عدالة اجتماعية” التى جمعت فأوعت وأغنت عمن سواها من العبارات، لكن حشوها في كل المقالات والبرامج والأحاديث جعلها كالعُملة البالية التى كان لها في الأصل قيمة ثم فنت من كثرة الإستخدام.

من المسلملت الأساسية في اللغة كما يقول اللغوي رومان جاكبسون هي وظيقة التواصل، فإن فُقدت فلا معنى للغة بالأساس. ومن مفاهيم التواصل الأساسية أن يعىّ الطرف المُرسل والطرف المُستقبل نفس الشئ من الرسالة المُرسلة، وهذا ما يبدوا أن كثير من المصريين لا يدركوه جيداً.

ومن المضحكات المبكيات أن اللغة العربية على وجه الخصوص شديدة الدقة في التعبير ويتجلى ذلك في كثرة الأسماء التى قد تطلق على المُسمى الواحد باختلاف الأحوال.

في حكاية طريفة يقال أن رجلاً لقي أبا العلاء المعري فقال عليه: من هذا الكلب؟ فرد المعري “الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسما”. فجاء اﻹمام السيوطي فألف منظومة في الكلمات التي تطلق على الكلب فجمع منها العشرات وأسماها “التبري من معرة المعري” ثم جاء مؤخراً الدكتور عبد الرحمن بن شميلة الأهدل وجمع ما تمم به السبعين اسما فأتم عمل السيوطي المشتمل علي اثنين وستين اسما ونظمها في كتاب اسماها “التحري في التبري من معرة المعري.”

كانت الكلمة من فرط معناها تثير حروباً أو تُنهيها وترفع أقواماً أو تخفضهم، فمن الطرائف أيضاً التي توحي بقوة الكلمة والمعنى ما حدث مع قبيلة “بنو أنف الناقة”، حيث كان الاسم مدعاة للمعرة والاستهزاء وكانت العرب تسخر منهم، حتى جاء شاعر يدعى الحطيئة ومدحهم بالأبيات التالية “قومٌ هم الأنفُ والأذناب غيرهمُ ****ومنْ يسوِّي بأنف الناقةِ الذنبا.”

فعلى قدرهم بين الناس لقوة الكلام ودقة المعاني.

في إيجاز يمكننا القول أن جزء كبير من الأزمة المصرية أزمة لغوية، أو إن شئت فقل أزمة اصطلاح. نحن لا نعي، ولا أستثني نفسي، عن ماذا نتحدث، فتجد أن أكثرنا يخوض معارك وهمية ويحارب طواحين الهواء من أجل مصطلحات لو جلسنا لنحققها ما وجدنا اختلافاً كبيرا بيننا فيما نعني بها. لذلك فإني أرجوا أن نتوقف عن استحلاب الكلمات ليلاً ونهاراً، ولنكتفي باستحلاب أشياء أخرى، كلٌ على حسب ما تشتهي نفسه.

اعلان
 
 
شريف جمال سالم 
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن