ليبيا بعد الثورة

من مجالي كوجور كاتب من مرجان تاقة في أكتوبر من العام 2011، وعقب أشهر من القتال، أنهى الثورا الليبيون حياة الزعيم الراحل معمر القذافي. وانتشرت أنباء مصرع الزعيم، وتداول العالم صوره وهو مخضب بالدماء. ويميل الليبيون هذه الأيام لتقسيم تاريخ البلاد إلى فترتين: فترة ما قبل القذافي وفترة ما بعد القذافي. فرحة، ودموع، وصدمة، كل ليبي يعلم بالتحديد ماذا كان رد فعله حين سمع الأنباء. ولكن الليبيون عايشوا تجربة مقتل القذافي بطرق مختلفة. فبعد عام من رحيل العقيد، تكشف لنا سلسلة مصورة للليبيون من مختلف الطبقات الاجتماعية عن خريطة الجيل الجديد.

بالحديث عن كوني مواطن أشعر بأنني حر كلما استيقظت في الصباح. لقد صار الناس يتحاورون في السياسة داخل المقاهي بعد أن كان هذا أمرا لا يمكن تصوره في عهد القذافي. ولكن لا تزال للحرية حدودها بالحديث عن الصحافة، فنحن لا نستطيع تناول كل القضايا، خصوصا تلك المتعلقة بالميليشيات. ولا تزال الحكومة تفتقر إلى السبل التي تحمي بها مهنتنا".
صحيح أننا نشعر جميعا على الأرجح بأننا سنصير أحرارا للأعوام العشرين المقبلة بعد مقتل القذافي. ولكننا بالرغم من ذلك لا نزال في حاجة لبعض الوقت، فنحن لا نثق بعد في سياسات الدولة. إن مصيرنا يمكن بأيدينا، وعلينا أن نغير من أنفسنا كخطوة أولى. لقد قام القذافي بعمل غسيل مخ شديد لليبيين على مدار الأعوام الأربعين الماضية بحيث لا تزال غالبية المواطنين تفكر بمبدأ "إن لم تكن معي فأنت ضدي". لا يستطيع الليبيون تحرير أنفسهم من التفكير باتجاه واحد، وكان هذا من أسواء جوانب النظام.
ثمة أمر مؤكد، وهو أننا أخيرا صرنا ننعم بحرية التعبير. إلا أن تغيير توجهات الناس يتطلب وقتا أطول بكثير، فمن عاشوا في ظل حكم القذافي لـ42 عاما لن يتبدلوا في طرفة عين. أعتقد أن الناس في ليبيا لا يرون سوى أشخاصا يرقصون في الشوارع، وسيستغرقون بعض الوقت قبل أن يستوعبوا السبب وراء ذلك تحديدا".
"لم ننعم بالحرية في الماضي، لذا، فالوضع تحسين كثيرا، إلا أن الدين احتل مساحة كبيرة جدا منذ انتهاء الثورة. لقد انخرط رجال الدين المسلمين بشكل كبير في الظهور الإعلامي، واكتسبت أراؤهم ثقلا أكثر من ذي قبل. لا أسمح لأحد أن يملي علي كيف أمارس ديني، وأرغب في رؤية فاصل بين الجين والدولة، فبدون ذلك لن نرى ديمقراطية حقيقية".
تراجعت تجارة الأسماك بشكل كبير في الأشهر الثماني التالية للثورة، فصببنا تركيزنا على حماية مرفأ الصيد. وقمت بتجميع حوالي 40 شابا من الأحياء المجاورة وسلحتهم لذلك الغرض. وكان هدفنا الرئيسي هو حماية البضائع من السرقة في غياب الشرطة، ولم نتردد في ذلك لأنه كان واجبنا كمواطنين. وكانت بنغازي ذات أهمية استرااتيجية إبان الثورة، فقد ساعدنا عدة آلاف من العمال الصينيين على الهرب عبر موانيها، والتي كانت كذلك نقطة تمرير الأسلحة والمؤن الأخرى إلى مصراتة. ساعدنا كذلك في إرساء سفن البضائع التي كانت تنقل النفط إلى المناطق الموالية للقذافي. وصرت منذ تحرير البلاد مسؤولا عن 300 رجل يعملون في حماية ميناء بنغازي والجمارك التي تديرها وزارة الدفاع. وفي هذا شيء من المفارقة، حيث أنني كنت ارفض آداء الخدمة العسكرية قبل الثورة.
منحتني الثورة فرصة الانخراط في السياسة، وهو شيء لم أكن لأتخيله في الماضي. فمنذ مارس 2012 اشتركت مع 1400 آخرين في تأسيس حزب العدالة والتنمية، وهو حزب محافظ ذا مبادئ مماثلة لحزب الحرية والعدالة التابع للإخوان المسلمين في مصر. ونهدف عبر حزبنا إلى تكوين هوية سياسية لليبيا قائمة على المبادئ الإسلامية. وأنا سعيد للغاية لكون حزبي هو القوة السياسية الثانية في المؤتمر الوطني الليبي. وقد أصببحت أمينا للحزب، فأتولى تنظيم جدول أعماله وكتابة محاضر الاجتماعات. لقد سمحت لي الثورة باكتساب خبرة سياسية كبيرة، إلا أنني أرغب حاليا في التركيز على وظيفتي، وقد قبلت لتوي منصبا كأستاذ مساعد بجامعة بنغازي.
هنا تزيد الخدمات الطبية سوء عن ذي قبل نظرا لسوء الإدارة. فمن الصعب الحفاظ على استمرارية التمويل نظرا لتوجيه الميزانيات لإدارة الطوارئ الطبية، وثمة نقص حقيقي في الكوارد المؤهلة، خصوصا الفنيين. وقد ظلت ألة الرنين المغناطيسي لدينا معطلة على مدار الأشهر الثلاث الماضية. ونظرا لأن التعاق عليها تم مع شركة مملوكة للذراع اليمنى للقذافي، فقد توقف كل شيء. وأنا الآن مضطر للتعامل مع الشركة الفرنسية المصنعة بشكل مباشر. ولا يكفي وجود آلتين لآشعة الرنين المغناطيسي في مدينة مثل طرابلس. أضف إلى ذلك أن المشفى العام للنساء والولادة ليس مغلق، وليس أمام الحوامل إلا العيادات الخاصة.
ظللت خلال الثورة أنادي للصلاة يوميا، ولكنني كنت كذلك أطلق صيحة التكبير، والتي كانت عادة مخصصة لشهر رمضان للشد من أزر الصائمين. كنت أرغب بهذه الصيحة أن أحفز المقاتلين وأعبر لهم عن دعمنا. وأذكر بالتحديد التاسع عشر من مارس 2011، وهو يوم التدخل الفرنسي في بنغازي، فقد سمعنا دبابات القذافي وهي تمر على بعد أمتار قليلة من المسجد الذي تجمعنا بداخله. سأظل لوقت طويل أتذكر الصلوات التي أديناها في ذلك اليوم.
كنت بصحبة زوجة عمي على متن طائرة أقلعت من بنغازي إلى لندن، وكان معنا حوالي 12 سياسيا معارضا. وعند منتصف النهار تقريبا، أخبرنا الطيار بنبأ مقتل القذافي عبر جهاز النداء، فقفز الجميع فرحا. وبعد مرور عدة دقائق، وأثناء توقفنا في إسطنبول، كانت جميع شاشات العالم تعرض صورا لجثة القذافي. وعدت بعد مرور أربعة أيام إلى أهلي في بنغازي.
كنت يومها في منزل أخي بطرابلس استعدادا لزفاف نجله. كنت مشغولة بصناعة الكعك. أبقينا على التلفاز مفتوحا طوال الوقت لمتابعة القتال الدائر، فعلمت على الفور بمقتل العقيد. لم أدرك للدقائق القليلة الأولى أن ذلك الرجل الذي حكم بلادنا لأكثر من أربعين عاما قد مات، ولكنني بعد ذلك أحسست بالحزن البالغ لمعاملته بتلك الطريقة، وجره، وتعليقه. كان أمرا مثيرا للاشمئزاز. كنت أفضل إلقاء القبض عليه ومحاكمته. لم أستطع أن أركز في عمل الكعكات بعد أن استمعت للأنباء.
أرى أن الثورة بدات بالأساس في الستينيات. كنت حينها طالبا في المدرسة حين اشتركت في التظاهرات الطلابية المناوئة للملك وجرحت في إحداها. وبعد أشهر قليلة من الانقلاب الذي نفذه القذافي في 1969، شاركت في اجتماعات مع غيري من الطلاب الذين كانوا قد شعروا بخيبة أمل في نظامه بالفعل. وفي الثمانينيات، قمت ومجموعة من أصدقائي بكتابة بيانات مناهضة للثورة، فتم اعتقالي في 1984 وسجنت لعام كامل بتهمة كتاةب شعارات مناهضة للثورة، كما حرمت من مغادرة البلاد. أشعر كثائر سابق بالفخر لنجاح ليبيا في الإطاحة بالقذافي، فثورة فبراير هي حدث تاريخي عظيم لا يقل عن إسقاط الملك إدريس. كنا في شبابنا نحمل آمالا عريضة لبلدنا، وأردنا أن نجعلها مقصدا سياحيا هاما في منطقة البحر المتوسط. وأنا اليوم أنتظر توقعات الليبيين اليوم.
إتحد الناس أثناء الثورة وراء هدف واحد: إسقاط نظام القذافي واستعادة السلطة للشعب. ودفعنا التنافس على هذا الهدف إلى الأمام، إلا أن المسائل الشخصية طفقت تطفو على السطح، وانتشرت حرب الميليشيات. وفيما يخشى حائزو الأسلحة تسليمها خوفا على أمنهم، فإن وجودها في أيدي المواطنين لن يجعل أحدا ينعم بالأمان
أحمل الكثير من التفاؤل لمستقبل بلادي. إنظر إلى بنغازي، فرغم شيوع السلاح حتى الآن توقف الناس عن قتل بعضهم البعض. من المهم أن ننظر إلى ماكنا عليه حتى ندرك ما صرنا عليه اليوم. فأربعين عام من الحكم الديكتاتوري فترة طويلة للغاية، وقد قطعت ليبيا شوطا طويلا فيما يتصل بفرض القانون والوعي السياسي. لم يحن الوقت للحكم على الديمقراطية الليبية، ولكن سيأتي ذلك الوقت يوما ما
كنت أحضر آخر حصصي الدراسية في الواحدة والنصف زهرا. غادرت الفصل لدقائق لشرب الماء، ولكنني رأيت صورا لجثة القذافي على شاشات التلفاز في طريقي للعودة. وصلت إلى الفصل لأجد المدرس يصيح "لقد مات القذافي، انتهت الحصة". خرج الجميع إلى ساحة المدرسة وبدأت الموسيقى في العزف عبر مكبرات الصوت. خطر ببالي جدي وجدتي المقيمين في القاهرة، وكيف أنه صار بمقدورهما العودة للوطن بعد 39 عاما في المنفى.
في نهاية مايو 2011، جاء جنود القذافي لتفتيش شقتنا بحثا عن زوجي إسماعيل، وهو موسيقي سبق له كتابة مقالات مناهضة للنظام على الإنترنت. كنت في الشهر الرابع من الحمل حينها، إلا أن ذلك لم يمنعهم من صفعي على وجهي فسقطت أرضا. قبل اقتيادي إلى السجن، عرجنا على المستشفى، حيث أخبرني الأطباء انني قد فقدت الجنين. إستجوبني الجنود حول نشاطات زوجي إبان الثورة قبل أن يزجوا بي في سجن نسائي بالقرب من المرفا لمدة أسبوع. أطلق سراحي بعد أن زاد مرضي، ولا زلت أعاني من الأرق والكوابيس رغم مرور عام على خروجي. في إبريل من العام 2012، اتجهت مع زوجي إسماعيل إلى عيادة نفسية في القاهرة تحملت الحكومة الليبية تكلفة العلاج بها، وقد بدأت الأمور الآن في التحسن. كانت عودتنا إلى طرابلس عسيرة، ولكننا الآن ننتظر طفلا جديدا بنهاية هذا العام، وحياتنا تعود إلى طبيعتها شيئا فشيئا.
"تدربت على يدي الثوار في جادو، وساعدت في تأمين جبل نفوسة(شمال غرب ليبيا). أقمت في طرابلس منذ انتهاء الحرب، حيث نتولى إخلاء وتأمين المباني الحكومية التي سيطر عليها أشخاص بشكل غير قانوني بدعوى أنهم من الثوار. وتنقسيم حياتي بين طرابلس وزوارة، أسبوع في الثكنات، وأسبوع كاجازة مع أسرتي. لا أشعر أنني جندي، هذه ليست الوظيفة التي أرغبها. لقد صرت من الثوار لأنني لم أجد خيارا آخر، لم يكن هناك ما يلزمني بالقتال. سأمكث في الثكنات طالما احتاجت المدينة للتأمين لأن الدولة لا تزال في حاجة إلينا. إلا أنني لا أطيق صبرا على العودة للحياة المدنية ومتابعة الدراسة. ربما أتابع الدراسة في الخارج، في أميركا أو بريطانيا. لم لا؟"
كنت قبل الثورة لاعبا محترفا بأحد أندية كرة القدم في الدوري الممتاز. وقاتلت منذ نوفمبر 2011 لتحرير مدينة بني وليد، أحد آخر معاقل النظام. ولكنني وقعت حاليا عقدا لمدة عام للعمل كقائد لجماعات الحماية الخاصة بالوزراء والوفود الرسمية بثكنات السواك. وأنا مستمتع بتلك الوظيفة بالرغم من أنني لا أرغب في ممارستها للأبد. أشعر وكأن الثورة قد غيرت من هويتي، فأنا لطالما أحببت ليبيا، ولكنني الآن فخور بكوني أنتمي لذلك البلد. أريد أن أدرس وأكون عائلة هنا. لقد انتهت مسيرتي كلاعب للكرة، ولكنني عثرت على أمل جديد.
إن عدم رؤية وجه القذافي على شاشات التلفاز يوميا لهو بمثابة تغير هائل. ولكن الثورة ترك أثرها على تكلفة المعيشة. لقد اضطررت للتوقف عن العمل في عدة مناسبات، في بعض الأحيان طال التوقف لشهر كامل، وذلك بسبب القيود على الوقود. كان سعر ليتر الوقود وقتها عشرة دينارات تقريبا (0.16 سنتات حاليا)، وأوقفت شرطة القذافي سيارات التاكسي بشكل متكرر. لقد خسرت الكثير من المال أثناء الثورة، والمرتبات هي مسألة عسيرة بالنسبة لسائقي التاكسي. في عام 2011، قام القذافي بزيادة الأجور لكسب الحلفاء. وبالرغم من رفع التجار للأسعار، إلا أن أجرة التاكسي لم تتغير بالنسبة إلى السائقين. أنا أؤيد فرض العدادات حتى يكون سعر المسافة بالكيلومتر موحدا على مستوى البلاد.
"في صباح العشرين من أكتوبر، كنت في طريقي إلى طرابلس قادما من تونس. كنت على بعد 60 كيلومترا من العاصمة الليبية قبل أن تشتعل النيران بسيارتي فجأة. كانت أول مرة أستمع فيها إلى الأنباء أثناء استقلالي لشاحنة القطر الخاصة بفني السيارات. تركني السائق في مدينة 'حمامات' بتونس، حيث مكثت من السابعة صباحا وحتى الرابعة مساء أشاهد التلفاز، والذي لم أستطع أن أبعد عيني بعيدا عن شاشته. لم أصدق الإشاعات حتى رأيت الدماء على وجهه"
 
 
اعلان
 
 
More from Panorama