في سبعة عشر شهراً فقط، تحول المشير عبد الفتاح السيسي من قائد عسكري برتبة فريق أول لا يحظى بشهرة كبيرة ليصبح بطلاً قومياً. بدأت رحلة السيسي كضابط من أصول متواضعة، تدرج بالجيش ثم ترك الحياة العسكرية ليترشح لمنصب رئيس الجمهورية بعد عدد من الحملات الشعبية التي تطالبه بأن يشغل أعلى منصب تنفيذي بالدولة.
لا يُعرف الكثير عن السيسي وبداياته، فالكثير من أعضاء المجلس العسكري ظهروا أكثر من مرة في وسائل الإعلام خلال الفترة التي حكم فيها المجلس من فبراير ٢٠١١ حتى ترشح الرئيس السابق محمد مرسي. إلا أن السيسي الذي ولد في عام ١٩٥٤ -فهو أصغر أعضاء المجلس العسكري- ظل بعيداً عن الأضواء بشكل كبير. فيماعدا المحللين العسكريين والدوائر المقربة، لم يعرفه الكثيرون حتى أصبح المتحدث باسم الجيش فيما يتعلق بقضية “كشوف العذرية” التي أثارت جدلاً كبيراً في يونيو ٢٠١١.
في مقابلة مع منظمة العفو الدولية، قال السيسي الذي كان يشغل وقتها منصب مدير إدارة المخابرات الحربية، إن الجيش قد أجرى “كشوف العذرية” لكي يحمي نفسه من أي ادعاءات ضده بالاغتصاب، وقد تعهد ألا تقوم القوات المسلحة بمثل هذه الأمور مرة أخرى، طبقاً لما أكده التصريح الصادر من منظمة العفو الدولية في هذا الوقت.
اختفى اسم السيسي مرة أخرى بعد هذه الأزمة، إلى أن عينه مرسي في أغسطس ٢٠١٢ قائداً عاما للقوات المسلحة. ومنذ ذلك الحين فقد بدأت تظهر سير ذاتية تبحث في ماضيه في محاولة لمعرفة التفاصيل التي لم تذكرها السيرة الرسمية له علي موقع الهيئة العامة للاستعلامات، والتي ذكرت من ضمن هواياته “ممارسة الرياضة” و”القراءة”.
والده كان يعمل في الصناعات اليدوية بحي الجمالية في القاهرة، والأسرة كانت أسرة متدينة وتقليدية. كان السيسي نفسه ورعاً وقد كتب أبحاثاً خلال دراساته العليا عن التاريخ الإسلامي. البعض يخمن أن هذا هو سبب اختيار مرسي له لهذا المنصب.
إلا أن السيرة العسكرية للسيسي تشير إلى أسباب أخرى لاختياره. تخرج السيسي من الكلية الحربية في عام ١٩٧٧ وكان تخصصه في قيادة سلاح المشاه. وفي هذا التوقيت كان الجيش المصري أنهى حربه الأخيرة مع إسرائيل، وتحول جيش مصر من موالي للاتحاد السوفيتي ومشارك في حرب ضد إسرائيل، إلى إمبراطورية محلية من الأعمال ومستخدم لمنتجات وزارة الدفاع الأمريكية.
وقد تدرج السيسي عبر الرتب العكسرية، وشغل العديد من المناصب التي، فيما بعد، أعدته ليشغل منصباً سياسياً، فقد درس بكلية الحرب الأمريكية التي أصبحت فيما بعد الراعي الأساسي للإمدادات العسكرية لمصر. كما عمل السيسي ملحقاً عسكرياً بالسعودية، واحدة من أغنى دول الشرق الأوسط بالنفط وأكثر الداعمين الدوليين للحكومة الحالية.
إلا أن ملفه الاستخباراتي هو ما جعله الاختيار المنطقي لمرسي من أجل خلافة المشير طنطاوي، فقد شغل منصب رئيس فرع المعلومات والأمن بالأمانة العامة لوزارة الدفاع، وقد كان مسئولاً أثناء عمله مديراً للمخابرات الحربية والاستطلاع عن تجنب الانقلابات العسكرية.
وبعد أشهر من الصراع على السلطة بين الجيش والإخوان المسلمين، فقد ظن مرسي أن السيسي سوف يعاونه على وضع الجيش تحت سيطرته.
فور انتخاب مجلس الشعب في يناير ٢٠١٢ والذي هيمنت جماعة الإخوان المسلمين على أغلبية مقاعده، بدأ الصراع بين الجماعة والمجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي استمر حتى ذلك الحين في السيطرة علي السلطتين التنفيذية والتشريعية منذ عزل الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك قبل عام من ذلك التوقيت.
وقد أصدر المجلس العسكري إعلاناً دستورياً صبيحة انتهاء جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية التي فاز بها مرسي، ليعزز فيه من صلاحياته من خلال الحصول على السلطة التشريعية بعد حكم المحكمة الدستورية بحل البرلمان. وفي نهاية المطاف فجر محمد مرسي لغماً في أغسطس ٢٠١٢ بإقالة طنطاوي وعنان وذلك خلال عملية تغيير واسعة النطاق أجراها على المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
وعين محمد مرسي السيسي وزيراً للدفاع بعد منحه ترقيتين ليصل لرتبة فريق أول. وفيما بعد أقال السيسي سبعين لواء بالقوات المسلحة بمن فيهم ستة من أعضاء المجلس العسكري. أصبح السيسي الآن صاحب أكبر رتبة عسكرية في مصر وأحد الشخصيات العامة، وهو ما لم يشهده الرجل من قبل.
ولم يتدخل السيسي في السياسة على نحو واسع في ظل إعطاء مرسي نفسه السلطة التشريعية وتحصين قراراته من خلال الإعلان الدستوري الصادم الذي استعرت معه الاضطرابات الأمنية، ليتحول الأمر إلى مواجهات في الشوارع بين أنصار مرسي ومعارضيه.
وبعد الاشتباكات التي وقعت بين أنصار الرئيس ومعارضيه والتي خلفت أكثر من عشرة قتلى، خرج السيسي عن صمته في آخر يناير بأول إعلان ضمن سلسلة الإعلانات المصيرية لعام ٢٠١٣ والذي قال فيه إن البلاد كانت تنحدر نحو الفوضى وأن الجيش لن يقف مكتوف الأيدي.
ومرت أسابيع من الهدوء النسبي، وكان الشيء الأبرز خلالها هو الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي وحملة تمرد لجمع توقيعات من أجل دعم إجراء انتخابات مبكرة. فأعد مسئولو الجيش خطة طارئة في حال آلت الأمور إلى العنف كما فتحوا قنوات اتصال مع حملة تمرد ليعربوا عن دعمهم غير المباشر للحملة. وشاهد السيسي حوار مرسي المطول والذي دافع فيه عن نفسه، كما حاول استضافة أسبوع من جلسات الحوار الوطني ولكن بلا جدوى.
ومع نزول مئات الآلاف من الموقعين على استمارة تمرد والداعمين للحملة يوم ٣٠ يونيو، قد ارتفع سقف المطالب من إجراء انتخابات مبكرة ليتحول إلى مطلب واحد وهو إسقاط مرسي. وفي اليوم التالي ظهر السيسي على شاشات التلفزيون معلناً عن مهلة لمدة ٤٨ ساعة من أجل إنهاء الأزمة السياسية. وبالفعل بعد انتهاء المهلة الممنوحة خرج السيسي على شاشات التلفزيون يحيطه عدد من القادة السياسيين والدينيين ليعلن عن خارطة طريق جديدة.
وعلى الفور طغى نجم السيسي على نجم الرئيس المؤقت المستشار عدلي منصور ليصبح هوالوجه الرئيسي للحكومة المؤقتة حيث رفعه المصريون إلى مرتبة أسطورية. وخاطب السيسي الجماهير في العديد من المناسبات العسكرية التي حضرها باعتباره وزيراً الدفاع. يتحدث السيسي بهدوء ويبرز في حديثه النبرة القومية، ليغدو مع كل هذا رمزاً شعبياً ذا حضور وتأييد أكبر من حدود وظيفته، فتزداد التوقعات أنه يطمح إلى منصب أعلى.
في التاسع عشر من يوليو خرج المتحدث الرسمي للقوات المسلحة لينكر بشدة التقارير المتداولة عن نية السيسي الترشح للرئاسة، معتبراً هذه التصريحات “عارية تماماً عن الصحة ولا تستند إلى أي حقيقة ثابتة،” وقال المتحدث الرسمي أن السيسي تشرف بأن يرى هذا الانصهار غير المسبوق بين الشعب والقوات المسلحة وأنه ليس لديه أي طموح آخر.
وذكرت وسائل الإعلام أن “مصادر مقربة” من السيسي نقلت قوله أنه لن يترشح للرئاسة لأنه لن يسمح أن يذكر التاريخ أن الجيش المصري تحرك من أجل تأمين مصالحه الشخصية.
ولمواجهة المظاهرات الكبيرة التي قادتها جماعة الإخوان المسلمين للمطالبة بعودة مرسي، خرج السيسي ليلقي بياناً مرتدياً نظارة شمسية سوداء، مطالباً الشعب بالاحتشاد يوم الجمعة الموافق ٢٦ يوليو لتفويض القوات المسلحة من أجل “محاربة الإرهاب”.
وبعد المظاهرات الكبيرة التي عبرت عن تأييدها للجيش، قامت قوات الأمن بفض اعتصامين لأنصار مرسي في الرابع عشر من أغسطس مستخدمين العنف، مما أودى بحياة المئات في يوم واحد. وقد نددت الكثير من المنظمات العالمية عملية فض الاعتصامين بينما ألقت المعارضة المسئولية على عاتق السيسي.
ومع حظر صورة محمد مرسي، انتشر وجه السيسي في كل ميادين وشوارع مصر. فقد كانت معظم التحركات الحكومية تترجم على أنها فقاعات اختبار لاحتمالية ترشح السيسي، و منها الاستفتاء على الدستور.
مع تمرير الدستور بنسبة تأييد تفوق ٩٥٪ من المشاركين في التصويت، اعتبر الكثيرون أن النتيجة تعكس شعبية السيسي الذي أعلن ضمنياً دعمه للدستور كما دعا الناس للمشاركة في الاستفتاء.
وقد أصبح السيسي أقل تعنتاً فيما يتعلق بإنكار نيته للترشح للرئاسة، ففي إجابة عن سؤال طرح في ديسمبر حول نيته للترشح للرئاسة، قال السيسي “عندما يأمرني المصريون سأنفذ ولن أعطي ظهري لمصر أبدا.”
وقد أعطى هذا التصريح أملاً لأنصار السيسي الذين ملأوا ميدان التحرير في الذكرى الثالثة لثورة يناير مطالبين إياه بالترشح. بعدها بيومين تم ترقيته فجأة إلى رتبة مشير ليصبح أول من يحصل على الرتبة بدون خوض أي حرب، بقي السيسي صامتاً بخلاف جملة قصيرة عبر فيها عن شكره للمؤسسة العسكرية للسماح له بأداء “الواجب الوطني”، ما جعل بعض المعلقين يعتبرون أن ذلك الأمر كان تحضيراً لإعلان ترشحه.
عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر
أشترك الآن