الناظم: (9) يغرف من صخر.. ينحت في بحر
 
 

شيء ما ربطني منذ الصغر بشعر الهجاء. فضلت إياه على الغزل والفخر والمديح وكل أغراض الشعر التقليدية. خمنت لبعض الوقت أنها الكراهية التي تحاول أن تخرج خالصة، أو الغل والانتقام. مع الوقت فهمت أن الهجاء يعوض عدم قدرتي على تعبيري عن الغضب. أنا غاضب دائمًا من صمتي، من خوفي، من أبي وأمي، من ساخري المدرسة، من جهلة المدرسين، من الله، غضبًا أربيه منذ الخامسة من عمري وأريد أن أحرق به الجميع دون تمييز.

في المرحلة الابتدائية كنت أرى نفسي أقرب ما يكون للحطيئة، الهاجي الشتام الذي يخاف الجميع لسانه، لم يترك شريفًا أو خسيسًا، عابرًا أو صديقًا إلا وهجاه. وكان يعرف كيف يكون موجعًا، يوصل هاجيه إلى الخزي، التواري عن الناس بعد ذيوع سوءاته على الملأ. كانت أمي تصف الجارة الشتامة بأن “لسانها مبرد”، لكن الحطيئة أعنف من ذلك، لسانه كتيبة كاملة من الجنود المدججين بكل أنواع الأسلحة الفتاكة القادرة على إبادة قرية في دقائق معدودة. تخيلوا معي المشهد: رجل دميم قصير رث الثياب لا يهتم الناس لحضوره، مجرد أن يفتح فمه ليقول “أنا الحطيئة” حتى ينفجر العرق من الوجوه وتتلعثم الأفواه، مترقبين أقل انفراجة من فمه، محاولين تفادي طلقات النيران التي ستخرج منه. ما أجمل هذا الخوف والترقب!

لم أفتن بالحطيئة ذاته، لكن بالحالة التي يخلقها، قدرته على قلب الدنيا رأسا على عقب بكلمات، لكنني لو حاولت الهجاء في نهايات الصف السادس الابتدائي، لانفجر الفصل بالضحك، ورموني باللقب الذي لازمني في الرياض وجدة والقصيم، في كليتي بالمنصورة وفي قريتي “كوم النور”: “النحوي”، اللقب الذي حاولت جاهدًا قلبه لصالحي. لم يفهم أحد الأصدقاء أو المعارف أن الفصحى والتهمة النحوية كانت مخرجي من مأزق “اللهجة”، أنا الذي بقيت غريبًا عن كل مكان مكثت فيه، غير منتم إليه، وكانت الفصحى أسهل في إيصال ما أريد قوله. وقت نزولي إلى مصر للالتحاق الجامعة كنت أتحدث لغة هجينة، خليطًا من اللهجات النجدية والحجازية والمصرية التلفزيونية، المطعمة جميعًا بالكثير من الكلام الفصيح. كنت مثل الحطيئة، دميم اللغة، موجود بعدم انتمائي، عدم قدرتي على فهم “دواخل” اللغة في المكان. غير أني لم أملك شجاعة الحطيئة في التبول على العالم أجمع واستفزازه بلساني الحاد.

في المرحلة المتوسطة “الإعدادية” عشت في أقبح مكان في العالم، مدينة عنيزة في منطقة القصيم، حيث الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين، وهو، لمن لا يعرفه، يرى في آل الشيخ ومفتي السعودية الراحل عبد العزيز بن باز تساهلًا في الدين، ولكم أن تتخيلوا كيف كانت حياتي في كنفه. كنت أعيش في مدينة لا يوجد بها استوديو تصوير واحد، ومن أراد صورة لجواز سفر أو هوية شخصية فعليه السفر إلى مدينة تبعد 35 كيلومترًا عن عنيزة. وإذا كان للمكان من اسمه نصيب، فالقبح هو نصيب مدينة يعني اسمها تصغيرًا للعنزة. أو مدينة مذبوحة مسلوخة كالعنزة الصغيرة.

في عنيزة صار غضبي أكبر وأقل حدة، غضبًا من فكرة وجودي ذاتها، من الإنسانية، من الدين غير القادر على إجابة أسئلتي البسيطة. وقتها بدأت التعرف على المتنبي، لا متنبي الكتب المدرسية بمدائحه لسيف الدولة، لكن متنبي آخر، غاضب مثلي، يحمل قلقًا وجوديًا لا يعرف سببه، لكنه يعرف كيف يصفه:
على قلق كأن الريح تحتي ** أحركها جنوبا أو شمالا

هو الذي لم يعرف ما الذي يريده:
يَقُولونَ لي ما أنتَ في كلّ بَلدَةٍ, وما تَبتَغي؟ ما أبتَغي جَلّ أن يُسْمى

أنا أفهم جيدًا ما تقوله يا عزيزي أحمد “هو أحمد مثلي أيضًا”، وأفهم هذا التوتر النفسي الذي لا تستطيع اﻹمساك بمعناه. من أجل ذلك كله تعلقت بالمتنبي، الذي يخصني تحديدًا، الغريب عن كل مكان عاش فيه، الذي قابله أهل مصر بالسخرية فلم يطق العيش معهم، ثم لما أراد الانتقام منهم، أخرج الغل من قلبه كاملًا وأودعه في هجاء كافور الإخشيدي.

أستطيع أن أراهن أن قليلين فقط من يعرفون أن كافور كان عالمًا جليلًا وحاكمًا عادلًا، حتى أن لقبه “الأستاذ” لم يأت إلا لسعه علمه. بل أنه من القلائل الذين فهموا طموح المتنبي غير المحدود وحجمه، وماطل في تنفيذ وعوده له بأن يدعه يحكم أماكن سبق أن وعده بحكمها، فانتقم منه المتنبي أسوأ انتقام، حتى غابت سيرته في التاريخ، إلا بما قاله المتنبي:
من علم الأسود المخصي مكرمة ** أقومه البيض أم آباؤه الصيد؟

لم يترك المتنبي مذمة إلا وألصقها بالرجل: لونه وأصله ورائحته وشكله وحكمه وأهل بلده. دمره تمامًا، قنبلة نووية من الأبيات سقطت على رأس كافور حتى انمحى. هذا ما كنت أريد إجادته، ولم أقدر.

ورغم عدم قدرتي، فقد نبت في قلبي إصرار محموم لا أعرف منبعه، وأنا الملول قليل الصبر، على حفظ الكثير من شعر الهجاء، ولا أزال أحفظه حتى الآن. صادقت كل الهجائين الكبار، وأفسحت في قلبي مكانًا لجرير والفرزدق. بالذات الفرزدق.

حُكي الكثير عن سبب العداوة بين الشاعرين، لكن الرواية الأقرب إلى نفسي ما حكاه ابن سلام في كتابه “طبقات فحول الشعراء”، ويقول فيه إن “الفرزدق وجرير والأخطل اجتمعوا عند بِشر بن مروان والي الكوفة، الذي كان يغري بين الشعراء، فقال للأخطل:
احكم بين جرير والفرزدق.
فقال: أَعفني أيها الأمير.
فأبى الأمير إلا أن يقول:
هذا حكم مشؤوم. الفرزدق ينحِت من صخر، وجرير يغرِف من بحر.
فلم يرض جرير بذلك وكان سبب الهجاء بينهما”.

عداوتهما لم تكن غيرة على قبيلة أو زوجة أو مكانة عند والي أو خليفة، بل كانت لدافع أكثر منطقية، غيرة على منتج فني. لم يرض جرير أن يقال عنه أنه “سهل” وغزير الإنتاج، في مقابل قوة السبك والحساسية الفنية العالية لدى الفرزدق المتحفظ في الغزارة الحريص على المراجعة والمعاودة والإحكام التام.

كنتُ بينهما، أملك غزارة جرير مع هول إخراجه للناس كالفرزدق. منذ صغري أكتب كثيرًا كثيرًا كثيرًا. لا يمر يوم دون عدة أبيات، خروجها سهل، لكنه خروج كالبول. من المجنون الذي يحمل بوله في كيس ليشمه الناس؟ ولعلي في ذلك مثل الفرزدق. أتخيل أن الفرزدق لم يكن قليل الإنتاج بقدر ما كان قليل الإعلان عن سوأته الشعرية، أما جرير فلم يكن يقيم وزنًا لذلك. يحكي ابن عبد ربه في العقد الفريد عن الفرزدق أنه قال “يأتي عليّ وقت يكون فيه قلع ضرس أهون علي من قول بيت شعر”، وفهم أهل الاختصاص أنه يقصد صعوبة بناء بيت من الشعر، احتباس شعري لا يقدر معه على التعبير. لكني فهمته بطريقة أخرى، أنه لا يقدر على “القول”، أي إذاعته وقوله على الملأ، لإحساسه بالعار من رداءة ما أنتج. كيف يخرجه للناس وهو الناقد العنيف؟ لذلك أحببت الفرزدق جدًا، وفهمت سبب غضبه الدائم وسلاطة لسانه. فهمت غضبه من جرير المتساهل في موهبته.

أما وإني كنت في منزلة بين المنزلتين بين الفرزدق وجرير، فكان بعض الأصدقاء يتندر علي إذا ذكرت الشاعرين: أنت تنحت في بحر فلا يخرج منك شيئًا ذا ملامح، وتغرف من صخر فيسد حلقك لتصاب بالخرس، حتى إذا تمكن منك الخرس بدأت في تدوين هذيانك.

واقع الأمر ألا أصدقاء قالوا ذلك، ولا أصدقاء مهتمون بالأساس بموقفي من قصائدي، وعصابي الذي أفسد عليّ الكثير من حياتي السابقة. واقع الأمر أنني غاضب أن لا أحد مهتم، وأريد أن أهجوكم جميعًا، أو الأسهل، أن أسبكم، يا ولاد الوسخة.

اعلان
 
 
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن